غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة، تقتضي من كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصور، وتعقله حق تعقله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الخير الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى. ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:

أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحق الصبر والصبر واجب وما كان منه للضرورة أوجب
قال علي بن أبي طالب: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرين، فإنه يحثى لهم حثياً، وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، لما يذهب به أهل البلاء من الفضل، ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يخبرهم أولاً بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال:
(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك، قال مقاتل: " إن كفار قريش قالوا للنبي ﷺ ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك؟ وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها "، (١) فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة، ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يخبرهم ثانياً بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم فقال:
_________
(١) ذكره الخازن في تفسيره دون مسنده.


الصفحة التالية
Icon