وقال الكرخي: لا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير مع صحة المعنى بدونه، وقيل معنى الابتلاء نقله من حال إلى حال على طريقة الاستعارة والأول أولى، والمراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها قال الخطيب أي جعلناه عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره، وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته فيصح تكليفه وابتلاؤه، وقدم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأن الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية وقيل المراد بالسميع المطيع كقولهم سمعاً وطاعة، وبالبصير العالم يقال لفلان بصر في هذا الأمر أي علم، والأول أولى.
ثم ذكر سبحانه أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء فقال:
(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر بأدلة السمع والعقل، كما في قوله (وهديناه النجدين) قال مجاهد: أي بينا السبيل إلى الشقاوة وإلى السعادة، وقال الضحاك والسدي وأبو صالح: السبيل هنا خروجه من الرحم، وقيل منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله، وانتصاب شاكراً وكفوراً على الحال من مفعول هديناه أي مكناه من سلوك الطريق في حالتيه جميعاً، وقيل على الحال من السبيل على المجاز أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً (١).
وحكى مكي عن الكوفيين إن قوله إما هي إن الشرطية زيدت بعدها ما أي بينا له الطريق إن شكر وإن كفر، واختار هذا الفراء ولا يجيزه البصريون لأن (إن) الشرطية لا تدخل على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل، ولا يصح هنا إضمار الفعل لأنه كان يلزم رفع شاكراً وكفوراً، ويمكن أن يضمر فعل ينصب شاكراً وكفوراً وتقديره إن خلقناه شاكراً فشكوراً؛ وإن خلقناه كافراً
_________
(١) قال ابن كثير: فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".