وإعراضه بشقه يجعله كالأنعام التى لا تدرى قيمة ما تدعى إليه، ولا تفرق بين دعوة إلى مرعى، أو دعوة متربح.
إن صورة فرار الحمر من الرماة- على ما يذكر بعض أهل اللغة من تفسير القسورة بالرامى والصياد، أو من الأسد على ما ذكر أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما أو من طلبه أول الليل على ما يذكر ابن الأعرابى «١». صورة ذعر وخوف لا تنسجم أبدا مع الداعى إلى الحق، والداعى إلى الخير والذى يهدى للتى هى أقوم. ولكن ليس هذا بالمستغرب لمن تساوى بإعراضه مع الحمر وكان هذا شأن المعرضين فى كل عصر كلما دعوا إلى الحق جعلوا أصابعهم فى آذانهم، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا.
وأما ما يتعلق بالوجه الثانى، وهو مرتبط بالوجه السابق هو التخويف بالآخرة وما يكون فيها من صنوف العذاب التى لا يقوى عليها الإنسان الضعيف. فهؤلاء لو كانوا يقدرون هذا المصير ما سلكوا سبيل الإعراض، بل الإعراض بهذه الصورة العجيبة.
إن الفطنة بالقرآن الكريم وما يتضمنه من صور وجوه الإنذار فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤). وتختم السورة التى فصلت وجوه الإنذار بتنبيه الإنسان بما منحه الله من القدرة على العقل والترك، وبما منحه من المشيئة والاختيار تقريرا لهذه المسئولية التى سبق ذكرها فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) ولكن هذه المشيئة التى منحت من الله للإنسان لا غنى لها عن المشيئة العليا لمن خلق وسير، ومن بيده ملكوت كل شىء فعليه نتوكل وهو رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
فذكر المشيئة فى السورة الكريمة فى قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) وفى قوله جل شأنه: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) تقرير لهذه المشيئة من الله للإنسان فى اختيار العمل الذى سيحاسب عليه الإنسان ولا يتعارض ذلك مع الحقيقة الكبرى فى مشيئة الله المهيمن القدير الذى أحاط كل شىء علما، وأحصى كل شىء عددا، والذى خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، ويمنحه بما يعلمه من شأنه وحاله ونيته.
وعلى ذلك فالمؤمن يشغل بمشيئة الخير وفعله والإقدام عليه وترك المنكر والإحجام عنه، ولا يقع فيما يقع فيه من قصر نظره، وترك العمل؛ لأن العبد مأمور ولا يعلم ماذا يشاء الله به. ولكن عليه من حسن ظنه بربه أن يطمئن إلى فضله ورحمته وكرمه ومغفرته