صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
لقد تحقق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من صور الوحى ومراتبه ما سنذكره تفصيلا على ما يلى:
أولا: الرؤيا الصادقة فى النوم. وهى أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، كما جاء فى رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والتى أخرجها البخارى رحمه الله.
وإذا كان ما يراه النائم إدراكا يقوم بجزء من القلب لا يحله النوم فإن الأنبياء لا يستولى النوم على قلوبهم، ولا على جزء منها، ولذلك فإن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، وما يرونه فى نومهم ليس من أضغاث الأحلام؛ ولا يستطيع الشيطان أن يعبث بقلوبهم، ولا أن يريهم فى نومهم أحلاما كالتى يمكن أن يقوم بها الشيطان لإزعاج النائمين من البشر، فما يراه الأنبياء فى نومهم حق ووحى يوحى الله به لرسله، وقد حكى لنا القرآن الكريم نماذج من هذه الصورة فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام يرى فى المنام أنه يذبح أحب الناس إليه إسماعيل، ويقول لإسماعيل حاكيا له رؤيته: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى [الصافات: ١٠٢]، ولكن قد يسأل سائل إذا كنا نقول إن رؤيا الأنبياء وحى وحق، وإبراهيم أبو الأنبياء يعرف هذا فلماذا يسأل ابنه ويطلب نظره ورؤيته فى وحى واجب التنفيذ؟
والجواب عن ذلك: إن إبراهيم عليه السّلام يرى أن الرؤيا حق وأنه واجب التنفيذ والطاعة، ولكن التنفيذ والطاعة هنا لا تتعلق به وحده، وإنما تتعلق بطرف آخر له إرادته وله اختياره وله رأيه، ولكن هل يتوقع من إسماعيل أن يكون رأيه ونظره مخالفا لحالة أبيه؟ إن إسماعيل بن إبراهيم وابن هاجر وهما الوالدان المسلّمان التسليم الكامل لأمر الله تبارك وتعالى؛ فإبراهيم سلم الأمر لله، وجاء بأحب الناس وأضعف الناس وهما الزوجة هاجر والطفل إسماعيل إلى واد وصفه القرآن الكريم بأنه: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧] تنفيذا لأمر ربه، ولما هم بالانصراف سألته زوجته: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ وإبراهيم يجد المكان بلا بشر يأنس الإنسان بالإقامة معهم ومشاركتهم حياتهم، وهذا معنى دعاء إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: ٣٧].