ففي هذا الحديث جاء جبريل فى صورة رجل يعلم الجالسين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمور دينهم، فى صورة سؤال وجواب، وهى طريقة لطيفة تيسر توصيل المفاهيم وتثبيتها، وتعين على حفظها، كما أن مجىء جبريل فى صورة رجل ليعلم الجالسين وغيرهم أدب طلب العلم فى حسن الجلوس وحسن المتابعة والإنصات، وهذه مهمة أساسية فى الإسلام فالرسول الكريم بعث معلما للعالمين، وهذا العلم الذى يعلمه هو علم النجاة، وأصحابه هم حملة هذا العلم عنه، وهم المبلغون له من بعده، ولا بدّ من حسن المنهج والسير عليه فى تلقيهم لهذا العلم وتبليغه فكانت مهمة جبريل عليه السّلام فى أداء هذا الدرس العملى. والذى يحكى لنا هذا المشهد صحابى جليل من تلاميذ مجالس النبى الكريم العلمية، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووصفه للمجلس كان دقيقا، ورؤيته للسائل وطريقة سؤاله كانت دقيقة، أشعرنا فيها منذ قراءتنا الأولى للحديث أن السائل ليس رجلا عاديا. فالرجل- كما جاء فى وصف عمر- طلع عليهم وهم جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يعرفه من الجالسين أحد، ومعنى ذلك أنه غريب عن المكان، ويقتضى ذلك أنه قادم من سفر، ولكن المدهش أنه لا يرى عليه أثر السفر؛ لا فى ثيابه، ولا فى شعره؛ فثيابه وصفت بأنها شديدة البياض، وشدة البياض مع السفر تجعل أثر الغبار واضحا مهما كان يسيرا، فالبياض يظهره، وكذلك الشعر، شديد السواد، لا أثر لغبار الطريق عليه، وبعد وصف عمر للرجل فى ذاته، يصفه فى هيئته التعليمية؛ حيث جلس إلى النبى صلّى الله عليه وسلم جلسة الأدب، فاقترب من المعلم حيث أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، كما يضع الإنسان وهو جالس للتشهد، وأخذ يسأل، ويتابعه عمر فى أسئلته ليقدم لنا تعجبا آخر يشعرنا به أن شيئا وراء هذا الرجل، فسأل عن الإسلام، ولما أجابه النبى صلّى الله عليه وسلم قال له الرجل: صدقت. وسبب التعجب أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، وإنما هذا كلام خبير بالمسئول عنه، ولم يكن فى ذلك الوقت من يعلم هذا
غير النبى صلّى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه، وصدق عمر فى تعجبه وتوقعه فالرجل ليس عاديا، فإنه لما انتهى من أسئلته وانصرف وطلب النبى صلّى الله عليه وسلم أن يردوه لم يجدوا أحدا، أى أنه منذ تركه للمجلس قد اختفى عنهم، فليس غريبا مسافرا، وليس بشرا منهم، بل جاء على صورة بشر ليقوم بهذه المهمة، قال الرسول لهم: «إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
ووصف عمر يفيد أن جبريل عليه السّلام عند ما كان يأتى فى هذه الصورة البشرية ليعلم جديدا، أو ليراجع ما علم، أو غير ذلك كان مشاهدا يسمعه الجالسون ويرونه، وهذه


الصفحة التالية
Icon