ولو كان فرعون على بصيرة لأذعن من رؤيته لموقف سحرته، وأن ما جاء به موسى ليس من قبيل سحرهم، ولكنه لم يفد من هذا، وادعى لنفسه السلطة على عقول الناس وقلوبهم فلا ينبغى أن يرى أحد إلا ما يراه فرعون، قال جل شأنه: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦).
ثم تذكر الآيات تسلط فرعون على قومه فى عقولهم وقلوبهم، وموقف السحرة بعد إيمانهم بآيات ربهم، واستعلائهم على عذاب فرعون وطلبهم من ربهم رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك إغراء الملأ من قوم فرعون له بموسى ومن آمن معه لإيقاع المزيد من الأذى بهم، واستجابة فرعون لهذا، وموقفه من ضعاف القوم من الأبناء والنساء ويأمر موسى قومه بالاستعانة بالله والصبر والأمل فى العاقبة الطيبة. وتصريح قوم موسى بوقوع الأذى بهم من قبل أن يأتيهم ومن بعد إيمانهم به وتعقيب موسى عليه السّلام بالرجاء فى استخلافهم فى الأرض، وإهلاك عدوّهم فماذا سيعمل هؤلاء بعد هذه المنّة. وأما آل فرعون فقد أخذهم الله بالقحط فلم يتعظوا، وإذا جاءهم الخصب والغنى لم يشكروا، وإذا جاءهم الجدب تشاءموا بموسى ومن آمن معه، وكان بعد ذلك إصرارهم على الكفر، وأنهم مهما جاءهم موسى بآية فلن يؤمنوا فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكان منهم الاستكبار والإجرام، فلما وقع عليهم العذاب بالإضافة إلى ما سبق من الآيات، وقيل فى العذاب: إنه الطاعون طلبوا من موسى أن يدعو ربّه إن كشف عنهم العذاب أن يؤمنوا فلما كشف عنهم العذاب إلى أجل نقضوا عهدهم، وأصروا على كفرهم، فأغرقهم الله فى البحر بتكذيبهم، وأورث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها.
وفى هذا العرض لما حدث لموسى وقومه وفرعون وقومه بيان للناس؛ حتى يفيدوا من تجارب السابقين وفى الوقت نفسه بيان لطبيعة بنى إسرائيل ليتهيأ المؤمنون فى معاملتهم بعد تأسيس الدولة بالمدينة المنورة فسيجدون اليهود- هناك- قال تعالى:
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا