إسرائيل فلما جاءهم رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم ما وفّوا بما أقسموا عليه بالأيمان الغليظة بل زادهم مجيئه نفورا وتوقف الآيات الكريمة الناس على سببين خطيرين لهذا الموقف من المشركين وهما سببان نفسيان خطيران: إنهما الاستكبار فى الأرض، والمكر السيئ.
فالاستكبار جاء من تصورهم الفاسد للنبوة، وأنها تكون لمن كان عظيما فى تصورهم بكثرة المال والعصبة وهذا العتوّ والاستكبار تبعه السبب الثانى، وهو المكر وخداع الضعفاء من الناس حتى يتبعوهم ويصدوهم عن الإيمان برسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم. ومع ذكر السببين تذكر الآيات الكريمة خطورة مسلك هؤلاء المشركين، وفى الوقت نفسه تطهّر المؤمنين من مثل هذه الأخلاق المرذولة ففي الحديث: «المكر والخديعة فى النار».
وهذا يعنى دخول أصحابها فى النار لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ولهذا جاء فى سياق هذا الحديث: «وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة» «١».
والآية الكريمة تؤكد للناس هذا المعنى فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعبا قال له: إنى أجد فى التوراة: «من حفر لأخيه حفرة وقع فيها» فقال ابن عباس: فإنى أوجدك فى القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «٢» وفى أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا». وروى الزهرى أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال:
«لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٤٣] ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح: ١٠] وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» [يونس: ٢٣] «٣».
ومعنى هذا أن الآيات الكريمة ترسى القيم الخلقية المؤسسة على التوحيد الخالص فى نفوس الناس. قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣) وإذا لم يجد مع هؤلاء نصح بعد كشف حالهم وكذلك فإن سنة الله ماضية لا تتخلف فقد أنزل العذاب بالكافرين، وجعل ذلك سنة فيهم فهو سبحانه يعذب بمثله من استحق لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره.
وهذه السنة الإلهية يراها هؤلاء فى الذين من قبلهم وعليهم أن يسيروا وينظروا ماذا

(١) القرطبى ١٤/ ٣٦٠.
(٢) القرطبى ١٤/ ٣٥٩.
(٣) القرطبى ١٤/ ٣٦٠.


الصفحة التالية
Icon