هو الذى خلقه من العلقة، وعلمه بعد الجهل؛ وذلك لأنه عن صيرورته غنيا يطغى ويتكبر ويصير مستغرق القلب فى حب الدنيا، فلا يتفكر فى هذه الأحوال ولا يتأمل فيها. والوجه الثالث: ذكره الجرجانى صاحب النظم وهو: أن (كلا). هاهنا بمعنى حقا لأنه ليس قبله ولا بعده شىء تكون (كلا) ردا له، وهذا كما قالوه فى كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) [المدثر] فإنهم زعموا أنه بمعنى «إى والقمر» والطغيان هو التكبر والتمرد، وتصبح العلاقة بعد هذا البيان بين الآيات أن الله تعالى لما ذكر فى مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة؛ بحيث بعد من العامل ألا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها اتبعتها بما هو السبب الأصلى فى الغفلة عنها وهو حب الدنيا، والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة، فإنه لا سبب لعمى القلب فى الحقيقة إلا ذلك، وخاصة عند ما نعلم أن معنى: (استغنى) أن الإنسان رأى نفسه إنما نالت الغنى؛ لأنها طلبته وبذلت الجهد فى الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه وهذا من الحماقة والجهل بحقائق الأمور، فكم من باذل وسعه فى الحرص والطلب وهو يموت جوعا. ولذلك فإن الطغيان يأتى نتيجة هذا المفهوم الخاطئ للغنى، وأما المفهوم الصحيح الذى يسعى فيه المؤمن سعيا نشيطا وهو مستعين بالله ومتوكل عليه ويعلم أن رزقه بيديه فإنه يزداد بالغنى شكرا وتواضعا وهكذا كان حال الأنبياء كسليمان عليه السّلام.
ومن المبادئ والقيم التى أرستها الآيات الأولى من التنزيل والتى تسهم في تأسيس الأفراد والأمم:
المبدأ الأول: أن الأمر لله سبحانه وكان الأمر الأول منه اقرأ؛ فالقراءة إذن أساس عظيم من أسس البناء الفردى والجماعى.
المبدأ الثانى: أن الخلق له سبحانه فهو الذى خلق وخلق الإنسان من علق، ويرتبط بهذا المبدأ مبدأ آخر وهو النظر والتأمل، فذكر الخلق بصورة عامة والتخصيص في خلق الإنسان من علق- دعوة إلى النظر والتأمل فى الخلق والآفاق، وفى النفس، وفى امتزاج الأمر والخلق فى الآيات الكريمة توجيه إلى ضرورة تحقيق الجانبين، ومقتضياتهما فى نفس الإنسان، فنظره وتأمله فى الخلق والنفس يملأ قلبه حبا وتعظيما للخالق البارئ المصور سبحانه، ويهيئ القلب للاستجابة لأمر الآمر النّاهى جل شأنه.


الصفحة التالية
Icon