لذكره، واهتمامه يرتكز على البيت، وليس العنكبوت بشكله البشع وما يضفيه على الكافر، وقد انشغل الزمخشري بتذييل الآية وهو قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «١» فقال: «أي لا يعقل صحّتها وحسنها وفائدتها إلّا هم، لأن الأمثال والتشبيهات، إنما هي الطّرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار» «٢».
وانشغاله بتذييل الآية يقدّم فكرة جليلة، لأنه يرى أنّ وعي انتقاء الحيوان للمعاني يحتاج إلى تمحيص وتدبّر، وذلك لفهم إيحاءات جمّة يفهمها العالمون بتدبّرهم وتذوقهم، وفي هذا التذييل هنا تعريض بجهل هؤلاء المعترضين على القرآن.
ولن نستفيض في البحث، ونستقصي جميع الحيوانات المذكورة في الصورة الفنية، وفي جميع كتب الدارسين، فإن هذه الطريقة لا تقدّم النفع الكبير، وبما أننا الآن اقتصرنا على ذكر العنكبوت، وتركنا سائر أقوال الدارسين في هذا «٣»، وقد داروا في فلك الجاحظ والرماني، فلا بأس أن نعرض لتأمل معاصر، لنرى ما تمتاز به النظرة الحديثة، وهذا يمثل تطبيقا لرأي الزمخشري في ربط أهمية الأمثال بالخاصّة، إذ يقول فتحي أحمد عامر: «والعنكبوت أقذر ما تقع عليه العين، حيث لا يألف إلّا الأماكن المهجورة، ولا يعيش إلّا في الخرائب، ولا يصح في حكم العقل، أو في حكم العاطفة والوجدان أن تكون العنكبوت على حظ، ولو قليل من النظافة الحسية والنظام، وبيتها أو هن البيوت بالاستقراء، لأنه لا يحتمل نفخة واحدة، فتتطاير خيوطه المهوّشة مع الريح، والعلاقة بين الهيئة الأولى والهيئة الثانية علاقة نفسية، فعبّاد الوثن يتخذون أحقر أنواع العبادة، ولا يصحّ في حكم العقل أو في حكم العاطفة أن يكون هؤلاء الذي يسجدون لصنم على حظّ، ولو قليل، من النظافة المعنوية والعفّة والترفّع عن الدّنايا» «٤».

(١) سورة العنكبوت، الآية: ٤٣.
(٢) الزمخشري، الكشاف: ٣/ ٢٠٦.
(٣) انظر مثلا: أبو هلال العسكري، الصناعتين، ص/ ٢٤٢، والعلويّ، الطّراز:
١/ ٣٢٧.
(٤) عامر، د. أحمد فتحي، ١٩٧٦، المعاني الثانية في الأسلوب القرآني، ط/ ٢ دار المعارف بمصر، ص/ ٤٢٧.


الصفحة التالية
Icon