ونستطيع أن نقول: إن ابن الأثير ظلّ منظّرا أميل إلى ذكر الأحكام والأفكار من غير تطبيق، خصوصا إذا تعرّض لمفردات القرآن، وقد قال: «الألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة، ولكلّ منها موضع يحسن استعماله فيه، فالجزل منها يستعمل في وصف مواقف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وأشباه ذلك، وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودات، وملاينات الاستعطاف» «١».
فهو يؤكّد أن الألفاظ جزلة ورقيقة، وأساس هذا هو الموضوع نفسه، لأنه يتطلّب تشكيلا صوتيا معيّنا، فقد أدرك العلاقة بين التشكيل الصوتي وبين المشاعر الإنسانية في الفن القولي، بيد أنه لا يطبّق هذا إلا في مجال رقة الألفاظ، وما يحمد له أنّه ربط الصوت بالموضوع.
ولو أنّ ابن الأثير أجال النظر في آيات السور المكية القصار مثلا لوجد أن نبرة التهديد والغضب والعنفوان واضحة المعالم في المفردات، وفي قصر الجمل أو الآيات القرآنية، وكثيرا ما لا يراعي الشعراء تنظيم الإيقاع وجزئياته، ليوافق المشاعر كما نجد الشّدّة في غزل أبي الطيب أحيانا.
ويمكننا أن نورد بعض الآيات مما يراعى فيها الموقف تفسيرا لمقولة ابن الأثير التي ذكرها في كتاب خصّص في الأصل لأدب الكاتب والشاعر، وإن عدّ البيان القرآني الأسوة الحسنة لصنّاع الأدب، ففي قوله عزّ وجلّ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «٢» تمثّل المفردات صرخة عنيفة بأصواتها، وكان باستطاعة ابن الأثير أن يتلمّس مظاهر الجزالة في تعدّد الباءات، والباء حرف شفوي انفجاري، ويزيده عنفا كونه مشدّدا أو ساكنا بالتنوين والسكون، أو مشددا ساكنا مقلقلا قلقلة كبرى.
كذلك يمكنه أن يتلمّس مظاهر الرقة في إيقاع أغلب السور المدنية، وكثير من السور المكية، ففي قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ
(٢) سورة المسد، الآية: ١.