وقد استطاع المحدثون بعض الشيء الوصول إلى هذه الحقيقة، وإن ظلّت أحكامهم مجملة أحيانا، وتفتقد المنهج العلمي الواضح كما رأينا.
لقد قلّد ابن الأثير سلفه ابن سنان، وأتى بشواهد قرآنية جاعلا الفطرة هي المعيار في توضيح الخفّة، وما يحمد في نظرته التحدث عن الجزالة والرقة، وهذا يعني في القرآن ارتباط الصوت بالموقف حيث الشّدة في مواقف الترهيب، واللين في مواقف الترغيب، كذلك تحدّث البارزي عن الخفة من خلال تقديم بعض المترادفات، مما يدلّ على تفهّمه لصفات الحروف، ووجد أن الخفيف هو الأكثر في القرآن.
أما المعاصرون فقد فهموا الخفّة على أنها سمة تشمل كلّ مفردات القرآن، وقد اقتبسنا بعض ما ورد عند عبد الكريم الخطيب والدكتور عتر، لنبيّن أن المواقف في القرآن هي التي تحدّد طبيعة الحروف والحركات، وبيّنّا أن القدامى، وإن صرّحوا بجمال الأصوات الليّنة، فإنهم قد وقعوا على جمال الأصوات الشديدة، وعبّروا عن هذا بالفصاحة، وأكّدنا أن القرآن كلّه يتّسم بالخفّة، وليس فيه ما يثقل على اللسان أو الأذن، أو يبعث على النّفور، إنما كانت فيه أصوات شديدة تجسّم المعاني المطلوبة، وقد شارك الصوت الفكرة في القرآن مشاركة فعّالة معبّرة عن الانسجام بين الشكل والمضمون.
ونحن لا نصم القدامى بالخلط والتلفيق عند ما يطلقون عبارات مثل الخفّة والرّشاقة والجزالة، فلا شكّ في أنّها عبارات صحيحة يدركها معاصروهم، وإن يعدّها التّحليل الصّوتي مصطلحات مجملة.


الصفحة التالية
Icon