ويضع ابن أبي الإصبع أمثال هذه الشواهد تحت عنوان الإشارة، أي اللفظ القليل للمعاني الكثيرة، ومما يلفت النظر أنه من أعلام القرن السابع الهجري الذي كثر فيه النّقل عن المتقدّمين، وعلى الرغم من هذا يعدّ ما وقع عليه في هذا المجال تفرّدا ودليلا على تذوق وتفهم كبيرين، يقول عن قوله تعالى:
وَغِيضَ الْماءُ «١»: «فإنّ غيض الماء يصير إلى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء، ولولا ذلك لما غاض الماء» «٢».
فقد أغنت الكلمة عن كلمات أخرى لتصوير الحدث، كذلك ما جاء حول الآية الكريمة: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ «٣» فيدلّ على تعمّق قائلا: «فانظر إلى ما أشارت إليه لفظة «الأمر» من ابتداء نبوة موسى عليه السلام، وخطاب الحقّ له، وإعطائه الآيات البيّنات من إلقاء العصا، لتصير ثعبانا، وإخراج يده بيضاء، وإرساله إلى فرعون، وسؤاله شدّ عضده بأخيه هارون، إلى جميع ما جرى في ذلك المقام، وأمثال هذه المواضع كثيرة إذا تتبّعت خرجت عن حدّ الحصر في الكتاب العزيز» «٤».
فقد استعيض عن تكرار ذكر الأحداث بهذه المفردة الجامعة، وهذه السمة متواترة في القصة القرآنية، وإننا لنرجح ما جاء لدى الجاحظ والثّعالبي، ولأن المفردات عندهما أغنت عمّا لم يذكر، وهي هنا أغنت عن التّكرار، ويبدو ذكرها أقرب إلى الاعتيادي في الكلام.
ويمكن القول إن الدارسين استفادوا بعض الشيء من إشارة الجاحظ إلى إيجاز الكلمات الجامعة في القرآن، وكان في إمكانهم الاعتماد عليها في ذكر كلمات أخرى مع منهج فني متخصص.
- الاختزان في الصيغة:
وفي هذا المجال لا بدّ من المرور بأهمية الصيغة: صرفية وغير صرفية مما
(٢) ابن أبي الإصبع، بديع القرآن، ص/ ٨٢.
(٣) سورة القصص، الآية: ٤٤.
(٤) ابن أبي الإصبع: بديع القرآن، ص/ ٨٣.