والكلمتان «سراجا، منيرا» تحملان في طيّاتهما كلّ المعاني المتغيرة مع تغير الزمن وتقدّم العلوم وتبدّل أفهام الناس، وقد قال البوطي: «فالعامي من العرب يفهم منها أن كلّا من الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وإنما غاير في التّعبير عنه بالنسبة لكل منهما تنويعا للفظ، وهو معنى صحيح تدلّ عليه الآية، والمتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدلّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة، فلذلك سمّاها «سراجا»، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه، وهو أيضا معنى صحيح تدلّ عليه الآية دلالة لغوية واضحة، أما الباحث المتخصص في شئون الفلك، فيفهم من الآية إثبات أنّ القمر جرم مظلم، وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبّهها بالسراج» «١».
لقد قدّم البوطي بعض الشواهد في هذا المجال، وهي تقرن بكل ما يجيء لدى كتب التفسير العلمي الذي يبحث في دقائق القرآن الطبية والفلكية والجيولوجية وغيرها، وقيمة الاختزان تتجلّى في عدم انغلاق المعنى على نفسه، بل يظلّ مفتوحا أمام القارئ، وكأن المفردة تمتلك أكثر من معنى، وذلك عند ما يفهمها كلّ حسب ثقافته، وهذا من مزايا إعجاز القرآن الكريم.
والقرآن كتاب هداية وإرشاد، وليس من مهمّته الحديث عن حقائق الوجود العلمية، ومع ذلك لم تخل آياته من التعبير عن حقائق كثيرة أثبتها العلم الحديث، ودلّت هذه الآيات على إعجاز القرآن وبيان مصدره الإلهي.
ومن هذه الآيات قوله عزّ وجلّ عن تلقيح السحاب: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «٢»، وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً،
فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ
«٣»، فالمفسّر القديم يرى في ذكر لواقح مجازا من المجازات البلاغية، لأنها في الأصل تعني اجتماع الذكر بالأنثى للناقة أو الشجرة، والعلم الحديث يؤكّد أن السّحاب
(٢) سورة الحجر، الآية: ٢٢.
(٣) سورة النّور، الآية: ٤٣، يزجي: يسوق، الودق: المطر.