الغاية في الجمال والفصاحة» «١».
وهذا مما يحدو بنا على القول إن التشريع الإسلامي يتّسم باتصال الحق بالوجدان في تطبيق هذا التشريع، وفي أسلوب الحديث عنه.
ويوازن الزمخشري بين «دمعت» و «تفيض» الواردة في قوله عزّ وجلّ عن الرّهبان: تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «٢»، يقول:
«معناه تمتلئ من الدّمع حتى تفيض، لأنّ الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو إقامة المسبّب مكان السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنّها تفيض بأنفسها: أي تسيل من الدّمع من أجل البكاء، من قولك: دمعت عينه دمعا» «٣».
إنه يردنا إلى الأصل اللغوي مما يجعلنا نتأمل في إسهام هذه المفردة في التصوير بالاستعارة، وقد يجتمع أكثر من معيار في رصد جمال المفردة في كشّافه، فمرة يكون للنفس حظّ كبير، ومرّة يفتح بالشّرح اللغوي أبواب تملّي الجمال، فنجد هنا إيثار «تفيض» التي تتصل بالمياه الغزيرة المتدفقة، وكأن جفونهم ينابيع تفيض بالدمع الذي هو دلائل على عمق الإيمان، فالكثرة معبّرة عن المضمون، كما أن الفيض يعبّر عن استمرار أكثر مما يعبّر الامتلاء، فالفيض امتلاء بعد امتلاء، وقد ينقص القدامى الكثير من التخيّل بيد أن هذا لا يمسّ الزمخشري إلا قليلا.
ولا يعني هذا أن الزمخشري بمنأى عن المزالق التي تبعد عن المعنى الحقيقي متأثرا بمفهوم خاطئ مثل تفسيره لقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا «٤» إذ يقول: «وكان رسول الله ﷺ نائما بالليل متزمّلا في قطيفة، فنبّه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في

(١) الحمصي، نعيم، تاريخ فكرة الإعجاز، ص/ ٢٩.
(٢) سورة المائدة، الآية: ٨٣.
(٣) الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: ١/ ٦٣٨، وانظر تفسير النسفي:
١/ ٢٩٨ وتفسير أبي السعود: ٣/ ٧٢.
(٤) سورة المزّمّل، الآيتان: ١ - ٢.


الصفحة التالية
Icon