وإذا أنعمنا النّظر في كتابه ألفينا أن معيار الذوق هو الذي يفرّق فيقبل ويرفض، وهذا مرتبط بالفطرة، فهو يقول: «ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ، فيضعها في موضعها، ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن في الاستعمال، وهما على وزن واحد وعدّة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرّق بينهما في مواضع السّبك، وهذا لا يدركه إلا من دقّ فهمه، وجلّ نظره، فمن ذلك قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ «١»، وقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً «٢»، فاستعمل الجوف في الأولى، والبطن في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن، ولا البطن موضع الجوف، واللفظتان سواء في الدّلالة، وهما ثلاثيتان في عدد واحد، ووزنهما واحد أيضا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف يفعل» «٣».
نلحظ إذن أنّ الجانب الموسيقى يطغى على إحساس ابن الأثير بالفروق، فإذا كان قد تحدّث فيما سبق عن الخفّة والعذوبة، ولذّة السمع، وسهولة النّطق وغيرها، فإنه هنا يحتجّ بشكلية المفردات، فيعدّ الحروف، وينتبه إلى الوزن، ثم يعود إلى الذوق، وكأنه يريد أن الاستعمال القرآني وجود لا يفسّر، ويجب أن يتّبع.
ويخيّل إلينا أن الأمر يعود إلى الدّلالة الإيحائية في الشاهدين، ذلك أن مادة كلّ منهما تختلف كلّ الاختلاف عن مادة اللفظة الأخرى، فمادة «الجوف» توحي بالضّمور والخلوّ والانحسار والعمق، خصوصا بما يرسمه حرف الجيم، وبعده حرف الواو الساكن، ثم حرف الفاء الذي تنضم عنده الشفاه من دلالة إيحائية.
وذلك على عكس «البطن» التي توحي بالنّتوء والبروز والانكشاف،

(١) سورة الأحزاب، الآية: ٤.
(٢) سورة آل عمران، الآية: ٣٥.
(٣) ابن الأثير، المثل السائر: ١/ ١٤٣.


الصفحة التالية
Icon