راحلته فرجّع في قراءته» «١». فقد كان يهتم بالأداء الحسن، وهذا يتضمن مراعاة لفظ الحركات، وإعطاء الوقفات والغنّات «٢» ومخارج الحروف حقّها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به» «٣».
ويعلّق الغزالي على هذين الحديثين قائلا: «قيل أراد به الترنّم، وترديد الألحان به، وهو أقرب عند أهل اللغة» «٤».
بيد أن هذا اللحن ليس بمطّ مبتذل، فهو محكوم بقوانين اللغة التي تساعد على إبراز النظم الموسيقى المعجز، وهذا التّغنّي لا يصل إلى مرتبة الغناء والإنشاد ولا يهبط إلى مرتبة القراءة، وإلى هذه المعيارية يشير الحديث النبوي: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتابين، وأهل الفسق، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرّهبانيّة» «٥».
وعلى هذا المنهج سار السلف الصالح، فلا يميلون إلى درجة الغناء، ولا إلى الغمغمة السريعة، وفي هذا الوعي المتجلّي في التأنّي نجد ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول فيما نقله الغزالي: «لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتّلهما وأتدبّرهما، أحبّ إلي من أن أقرأ القرآن هذرمة» «٦».
فللتأنّي في تلاوة القرآن فضيلة المتعة السمعية، وهذا لا يكون إلا مع تدبّر

(١) مسلم، بن الحجاج، صحيح مسلم، المطبعة المصرية، القاهرة، بلا تاريخ، كتاب فضائل القرآن: ١/ ٥٤٧.
(٢) الغنّة: هي ما يكون في إدغام النون الساكنة والتنوين مع بعض الحروف، فيخرج الصوت من الخيشوم.
(٣) البخاري، محمد بن إسماعيل ١٩٧٦، صحيح البخاري، ط/ ١، شرح د.
مصطفى البغا، مطبعة الهندي، كتاب فضائل القرآن: ٤/ ١٩١٨.
(٤) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: ١/ ٣٢٩.
(٥) البيهقي، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، كما في السيوطي جلال الدين، الجامع الصغير، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ: ١/ ١٩٩.
(٦) الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين: ١/ ٣٢٦. والهذرمة: قراءة سريعة غير مفهومة.


الصفحة التالية
Icon