والذي يعنينا هنا من هذين النصين: أن القول بأن المعرفة طباع لا يناقض القول بحرية الإرادة عند المكلف، وهو الأمر الذي لا يتصور الحاكم خلافه. كما يعنينا أيضا أن نظرية الجاحظ لا تناقض النظر، أو تمنعه، بل توجبه كما يقرر ذلك الحاكم نفسه، ولهذا كان اعتماد الحاكم على الآيات التي توجب النظر وتنهى عن التقليد، في الدلالة على
مذهبه في المعارف وفي الزراية برأي الجاحظ، أمرا يحتاج إلى المراجعة، بغض النظر عن «طريق» حصول المعرفة بعد ذلك!
ولهذا ترى أن الآيات القرآنية الكثيرة التي أسندت إلى العباد الشك والجهل والظن وعدم الفهم هي التي «حققت» للحاكم رأيه الذي دأب عليه في اكتساب المعارف، ولو كان الأمر على ما يقول الجاحظ لما جاز نسبتهم إلى غير الانكار والتكذيب والمعاندة واللجاجة. ولم يفت الحاكم بالطبع الوقوف عند هذا النوع من الآيات والتعليق عليها بإيجاز، قال في قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) «١» إن قوله «تمترون» يدل على بطلان قول من يقول إن لمعارف ضرورية.
وقال في قوله تعالى: (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) «٢» إن أبا علي قال إن قوله «اشمأزت» يدل على أن المعارف مكتسبة.
(٢) الآية ٤٥ سورة الزمر. وانظر التهذيب ورقة ١٣/ و.