في هذه الرسالة- أجمع صورة وأدقها وأكثرها أمانة كذلك.. للطريقة التي تناول بها المعتزلة وأهل الرأي القرآن الكريم بالتفسير والشرح، كما يدلنا على مدى اعتماد المعتزلة على نصوص القرآن في آرائهم ومذاهبهم...
وعلى تفريقهم بين ما يدخله التأويل من الآيات، وما لا يدخله التأويل..
وعلى نظرتهم الدقيقة إلى المعارف ما يعرف منها من جهة الشرع، وما يعلم منها من جهة العقل، وما يصح أن يعلم منها من كل واحد من الطريقين.
ويدلنا هذا الكتاب أيضا على ذلك التفاعل الحي بين التابعين ورجال السلف من جهة، وبين شيوخ المعتزلة الأوائل من جهة أخرى.. وعلى مدى الالتقاء بين أولئك وهؤلاء. ويؤكد لنا الفكرة التي ألمحنا إليها في مقدمة هذا البحث، وهي أن الخلاف بين المتكلمين ورجال الفرق إنما نشأ في الأصل هينا يدعو إليه الخلاف في الفهم وقواعد النظر، ولكن عمق فيما بعد على أيدي الأشياع المتأخرين بفعل التعصب والمغالاة.. بل بفعل التخلف والانحطاط الذي كان يقعد بهؤلاء عن فهم ما قدمه الأوائل في بعض الأحيان.. أو الذي كان يدع صدورهم تضيق بالخلاف الذي اتسعت له صدور الأوائل وعقولهم. وكأن هذا التفسير يشير إلى أن مشكلات الإنسان الأساسية- وهي في جوهرها واحدة على مدى العصور:
ما وراء الطبيعة، الحرية الإنسانية، القضاء والقدر... الخ، وإن اختلفت عناوينها وأساليب طرحها على الأزمان- إنما يطرحها الإنسان ويجيب عنها، أو يحاول الإجابة عنها، في أوقات رقيه وتقدمه، لا في أوقات تخلفه وانحطاطه وتدهوره المادي والمعنوي، التي يكون فيها مشغولا بالسعي على نفسه يدفع عنها غائلة الجوع والخوف.