السر القرآني في تقديم لفظ تعلم القرآن على الخلق والإيجاد في أوائل سورة الرحمن
الحمد لله خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه حلقة من حلقات برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، وهذا البرنامج المبارك يعنى بآيات الكتاب المبين من حيث دلالاتها البيانية والبلاغية تمهيداً لبيان مراد الله جل وعلا منها، وأول الآيات التي سنشرع في بيان معالمها بيانياً وبلاغياً: قول الله جل وعلا: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: ١ - ٤].
أيها الأخ الكريم! نعلم جميعاً أن الرب تبارك وتعالى له أسماء حسنى وصفات على، ومن أسمائه الحسنى الرحمن، وهذا الاسم المبارك يستفتح الله جل وعلا به هذه السورة المباركة، ثم أتبع ذلك جل ذكره بذكر نعمتين عظيمتين أنعم بهما على خلقه: نعمة الخلق والإيجاد، ونعمة الهداية والإرشاد، ومعلوم قطعاً: أن نعمة الخلق والإيجاد مقدمة زمناً على نعمة الهداية والإرشاد، كما أن نعمة الخلق والإيجاد يشترك فيها جميع المخلوقين وجميع الموجودين، فالذي خلقهم وأوجدهم من العدم، ورباهم بالنعم، هو الرب تبارك وتعالى، لكن الله جل وعلا هنا قال: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ [الرحمن: ١ - ٢].
فذكر تعليم القرآن مقدماً على الخلق والإيجاد، وهذا هو السر البياني الذي سنقف عنده في هذه الحلقة المباركة، فنقول: لما كانت نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد قدمها الله وإن كانت متأخرة زمناً، إلا أن الله قدمها لعظيم نفعها وجلالة أثرها، ولأن نعمة الهداية والإرشاد لا ينالها إلا المؤمنون، لا ينالها إلا المطيعون المخلصون المتقون، لكن نعمة الخلق والإيجاد مشتركة بين الخلق ينالها كل مخلوق، من بر أو فاجر، من مؤمن أو كافر، من بني آدم، من الجن، من الملائكة، من البهائم، من الطير، كلهم يجتمعون ويتساوون في أنهم مخلوقون للرب تبارك وتعالى.
فهذا السر البياني الذي من أجله قدم الله جل وعلا نعمة الهداية والإرشاد؛ لأنها نعمة خاصة أعطاها الله جل وعلا لبعض خلقه، فمنح تبارك وتعالى لبعض عباده -جعلنا الله وإياكم ممن أفاء الله جل وعلا عليه- هذه النعمة، ثم إننا نقول معرجين على ما في هذه الآية: إن الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، وكذلك الرحيم اسم من أسماء الله الحسنى، وبينهما عموم وخصوص، وجملة ما يمكن أن نفيد به في هذا اللقاء أن نقول: إن اسم الرحيم يطلق على الرب تبارك وتعالى ويوصف به غيره، قال الله جل وعلا في نعت نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨].
وتقول في كلامك: إن فلاناً رجل رحيم، وإن زيداً رجل ذو شفقة ورحمة ورحيم بمن حوله، لكن اسم الرحمن لا يطلق إلا على الرب تبارك وتعالى، ولا يصح شرعاً ولا يجوز أبداً إطلاقه على غير الرب جل وعلا، نعود إلى قوله سبحانه: ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ﴾ [الرحمن: ٢ - ٣]، من المتفق عليه عند النحاة: أن (علم) تنصب مفعولين، فما المفعولان اللذان نصبهما الفعل (علم)؟ أما الأول فظاهر وهو القرآن، لكن هل نقول: إن لفظ القرآن هنا هو المفعول الأول أو هو المفعول الثاني؟ الذي يترجح: أن القرآن هنا هو المفعول الثاني، فيبقى علينا تقدير المفعول الأول، وتقديره اختلف أهل التفسير والتأويل فيه رحمة الله تعالى عليهم أحياء وأمواتاً: لكن الأرجح أن يقال: إن التقدير هو: علم نبيه القرآن، وفي اعتمادنا لاختيار المفعول الأول أن يكون لفظ (نبيه) هو أن في ذلك رداً على زعم قريش وافترائها: أن محمداً ﷺ جاء بالقرآن من عنده وليس القرآن من عند الله وهذا باطل، وهذه إحدى الردود التي رد الله جل وعلا بها على زعم أولئك الكفار، ومعلوم أن قريشاً قالت: قال الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥]، وهناك طرائق عدة تبعها القرآن في الرد على قريش في زعمهم، وهذا واحد منها في أن الله جل وعلا بنص صريح واضح جلي بين أنه تبارك وتعالى الذي علم نبيه هذا القرآن وأنزله عليه، وأرسله به صلوات الله وسلامه عليه، قال شوقي: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم وقال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، من هنا يتضح -أيها الأخ المبارك والأخت المباركة- أن التقديم والتأخير هنا كان لغرض بلاغي: وهو إظهار شأن القرآن، وبيان نعمة رحمة الله جل وعلا بعباده المؤمنين أن هداهم للإيمان والتقوى، وأن هذا مقدم حساً ومعنى، ولفظاً ومبنى، على نعمة الخلق والإيجاد التي يشترك فيها الخلائق أجمعين، فليس لخلق أحد خصيصة على خلق أحد غيره.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله في هذه الحلقة التي عنينا بها ببيان التقديم والتأخير في كلام العلي الكبير حول قول ربنا جل وعلا: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: ١ - ٤].
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.


الصفحة التالية
Icon