ولتجدنهم أحرص الناس على حياة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية.
والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول ربنا جل وعلا: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٩٦].
الآية أيها الإخوة المباركون! تتكلم عن اليهود، واليهود قوم بهت كما قال عنهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان لهم شأن عجيب مع نبي الله جل وعلا موسى، وقد جاء القرآن بذكر أخبارهم مع نبي الله موسى تفصيلياً، فأقام الحجة عليهم، وأظهر عوارهم، وبين أن ما يصنعونه اليوم مع نبينا ﷺ إنما هو من جنس ما صنعوه مع كليم الله وصفيه موسى بن عمران، وهذه الآية في سورة البقرة صدرها الله جل وعلا قبل ذلك بقوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ﴾ [البقرة: ٩٤]، إذ كان هؤلاء من أهل الكتاب -أي: اليهود- يقولون: إن الجنة محصورة فيهم، وأن الآخرة لهم دون غيرهم، فأمرهم الله جل وعلا ببرهان على ذلك، وطلب منهم إن كانوا صادقين على هذه الدعوى أن يتمنوا الموت، قال جل وعلا: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٩٤]، ثم أخبر جل وعلا أنه لم يقع منهم ذلك التمني، قال سبحانه: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٩٥]، ثم ذكر سبحانه هذه الآية التي نحن بشأن الحديث عنها وهي قوله: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ﴾ [البقرة: ٩٦]، أي: إذا دنوت من أخبارهم فستجد هؤلاء القوم أحرص الناس على حياة، وقد جاءت كلمة (حياة) منكرة هنا، وهو لب حلقة هذا اليوم؛ لبيان أنهم يتشبثون بأي حياة كانت، سواء كانت حياة محمودة، أو حياة مذمومة، حياة فقر أو حياة غنى، حياة عز أو حياة ذل، المهم أن يبقوا، وليس هذا صنيع من يرجو شيئاً في الدار الآخرة؛ ولهذا قال الله جل وعلا: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦]، وهذه الواو تحتمل معاني عدة، لكننا سنبقى على اختيار واحد حتى ينتظم قولنا حول هذه الآية المباركة، والمعنى: اعلم يا نبينا! أن هؤلاء القوم هم أحرص الناس على حياة، وليس فقط أحرص الناس على وجودهم، بل هم كذلك أحرص من الذين أشركوا على الحياة.
ولماذا اختار الله جل وعلا أن يعبر عن أهل الإشراك هنا في المقارنة ما بين حرص اليهود وحرص أهل الإشراك؟ الذي يظهر -والعلم عند الله جل وعلا- أنك إذا تأملت التالي -أيها المبارك- وجدت الجواب بين عينيك، والتالي: أن يقال: إن اليهود بالرغم من كفرهم بالله جل وعلا وعدم تصديقهم بنبوة محمد ﷺ إلا أنهم في اعتقادهم يؤمنون بالدار الآخرة، ويؤمنون بأن هناك بعث، وأن هناك نشور، ولذلك قال الله جل وعلا عنهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١]، وقال: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، وهم مؤمنون بالبعث والنشور بخلاف أهل الإشراك الذين بعث إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فهم لا يؤمنون ببعث ولا بنشور، فمن باب أولى عقلاً ونقلاً ينبغي أن يكون حال أهل الإشراك أشد حرصاً من حال اليهود؛ لأن أهل الإشراك يؤمنون بأنهم لا يعيشون إلا حياة واحدة فقط، فيكون تشبثهم بالحياة بناء على هذا المعتقد الضال الذي يؤمنون به كبيراً، بخلاف اليهود والمؤمنين بالبعث والنشور، فلا حاجة لأن يكون هناك تشبث بالحياة إذا كانوا يؤمنون أن هناك آخرة، وأنهم سيدخلون الجنة، هذا الوضع أو الواقع الطبيعي للأمر، لكن الله هنا يبين سرائر أولئك القوم: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [البقرة: ٩٦]، فخصهم بالذكر ليبين لنا أي منتهى وصل إليه حال تشبث أولئك اليهود بالدنيا، وهذا إن دل فإنما يدل على ضعف يقينهم بما يزعمون، وعلى بطلان برهانهم الذي يدعون، أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، وهذا أسلوب قرآني عظيم في تفنيد آرائهم بقيت بعض الأمور الإيمانية التي يحسن بنا أن نستطرد فيها في مقامنا هذا فنقول: إن الإنسان كلما كان على يقين بلقاء الله زهد في هذه الدنيا، وهذا معنى قول الله جل وعلا لنبيه: ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ [الضحى: ٤]، وقال الله جل وعلا لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [يوسف: ٥٧]، كل هذا يبينه الرب تبارك وتعالى ليدفعنا جل وعلا لئلا نتشبث بالدنيا فالدنيا زهرة حائمة ونعمة زائلة.
فإذا نظرنا إلى حال اليهود هذا وقسناه بحال الأنبياء الذين هم أعرف الخلق بالله وجدنا أن أنبياء الله يخيرون عند الموت بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، وبين لقاء الله ثم الجنة، فنجدهم عليهم الصلاة والسلام يختارون لقاء الله ثم الجنة، وهذا يدل على عدم تشبثهم وتعلقهم بالدنيا، وعدم حرصهم عليها، فهذا سيد الأبرار وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه يخيره جبريل، والنبي ﷺ متكئ على سحر عائشة ونحرها، وهي لا تسمع تخيير جبريل، لكنها عرفت تخيير جبريل من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها قالت رضي الله عنها وعن أبويها: فسمعته يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، قالت رضي الله عنها وأرضاها: فعلمت أنه يخير.
أي: يخيره الملك ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، وما بين لقاء الله ثم الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، قالها ثلاثاً) ثم مالت يده، وفاضت روحه إلى أعلى عليين، في المحل الأسنى، والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
وموضع الشاهد منه: أن النبي ﷺ لم يكن لديه حرص على الدنيا، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه أتباعه صلوات الله وسلامه عليه، لكن عدم الحرص على الدنيا لا يعني ترك العمل، ولا يعني عدم المسارعة في الخيرات، ولا يعني عدم عمل المعروف أبداً، فلا يمكن أن يأتي الشرع بمثل هذا، فهذا فكر ضال نشأ في الأمة مؤخراً، لكن النبي ﷺ أراد بذلك جملة أن ما لم يقع في أيدينا لا تتعلق به أعيننا.
قال تعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: ١٣١].
فالمرء كلما بعد عن التشبث بالحياة الدنيا بعد عن صفات الأشقياء، وكلما تعلق بالله واشتاق إلى لقاء الله اقترب من هدي الأنبياء، فإذا جعل من الحياة الدنيا مزرعة للآخره واستثمرها في الطاعات والمسابقة في الخيرات، وعمل المعروف، ونفع الأمة، وإرضاء المجتمع بما ينفعه، كان عبداً موفقاً، ورجلاً مسدداً.
جعلني الله وإياكم من أهل ذلك.
هذا ما تيسير إيراده، وتهيأ إعداده، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.


الصفحة التالية
Icon