لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية).
والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله جل وعلا عن أهل الكهف: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨].
والجزء الذي سنتحدث عنه في هذه الآية هو: قوله جل شأنه: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً)، فأسند الله جل وعلا التقليب هنا إلى ذاته العلية، قال العلماء: فيه فائدتان: الأولى: تشريف لهم.
الثانية: بيان لطف الله جل وعلا بهم.
وأهل الكهف هم فتية ضاعوا في أول الدهر، هكذا سألت قريش النبي ﷺ عنهم، والأصل أنهم فتية آمنوا بربهم، وأظهروا التوحيد ضد من كان يحكمهم آنذاك، فاجتمع أمرهم على أن يلجئوا إلى ربهم تبارك وتعالى، فآواهم العلي الخبير إلى كهف، وفي طريقهم أخذوا كلباً معهم سواء قلنا: إنه كلب راع أو كلب غيره، المهم أنه استقر بهم الأمر في كهف فضرب الله جل وعلا على آذانهم، ولم يضرب الله جل وعلا على أعينهم؛ لأن الضرب على الآذان يعطي فرصة أكبر، ومدة أطول في كونهم نائمين، قال الله: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: ١١]، وأنت ترى النائم اليوم، إذا أردت أن توقظه إنما تحدث صوتاً عند أذنه، هذه أنجح الطرق في إيقاظ النائمين، لكن أن تمر بجواره هذا لا يدفعه للاستيقاظ من نومه؛ لأنه مغمض العينين، فنقول: هؤلاء المباركون أهل الكهف -فيما يظهر- ناموا وأعينهم مفتوحة، وهذا معنى قول الله جل وعلا: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ [الكهف: ١٨]، وهذا لا يتأتى إلا إذا نظر الإنسان إلى أعينهم؛ لأن إغلاق العين أو فتحها هو الفارق بين من ينام ومن لا ينام، وبهذا العرب تزعم في كلامها أو في أخبارها وأشعارها وقصصها: أن الذئب ينام بإحدى عينيه، ويبقي الأخرى مفتوحة، فيقولون فيه: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم الذي يعنينا هنا: أن الرب جل وعلا أراد لهؤلاء الفتية أن يكونوا آية فحفظهم جل وعلا أيما حفظ، فضرب على آذانهم فمكثوا في الكهف سنين عدداً، وانظر إلى عظيم لطف الرب تبارك وتعالى، فأعداؤهم وخصومهم خارج الكهف يبحثون عنهم، وربما أنفقوا الأموال في الوصول إليهم، وهم لا يحملون أي هم يذكر، بل هم نائمون في راحة تامة متواصلة، ضرب الله على آذانهم لا يعلمون شيئاً مما يقع خارج الكهف، ولا ما يقع داخل الكهف لطفاً من الله جل وعلا بهم، وهنا تعلم أن من أراد الله جل وعلا حفظه ورعايته فلا سبيل لأحد أن يؤذيه، كما حفظ الله أنبيائه وسائر الصالحين غيرهم.
قال الله جل وعلا: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: ١٨]، فهم البعض بادي الرأي: أن هذا يدل على طول أظفارهم وأشعارهم، وأن ظهورهم قد احدودبت مع طول السنين ومرور الأيام، وأن الشيب قد خطهم، إلى غير ذلك، قالوا: هذا السبب في قول الله جل وعلا: (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) ونحن نذهب -والعلم عند الله- إلى أن هذا بعيد؛ لأن هذا المعنى لو قلنا به لا يستقيم مع الآية التي بعدها؛ لأن الآية التي بعدها يقول الله جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١٩].
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي: أيقظناهم من رقودهم.
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) أي: من هؤلاء الفتية.
(كَمْ لَبِثْتُمْ) هم قطعاً ظنوا أنهم لبثوا، لكنهم كانوا يتساءلون.
(قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) الآن فلننخ المطايا: هل يعقل من فتية يصفهم الله جل وعلا بأنهم زادهم هدى، ينظر بعضهم إلى بعض وقد طالت أشعارهم على هذا القول، وطالت أظفارهم، واحدودبت ظهورهم، وخطهم الشيب، ونالهم ما نالهم من تغير السنين ومرور الأيام، ثم يقول بعضهم لبعض: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) هذا محال، لكنهم لم يجدوا في أنفسهم تغيراً، وجدوا أنفسهم كالحال التي ناموا عليها، ولهذا كان بديهياً أن يقولوا: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) وفي هذا: إذهاب وتفنيد لذلك التوهم الذي قد يأتي للنفس من قول الله جل وعلا: (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا)، وهذه يمكن أن نجيب عنها: بأن ذلك الفرار وذلك الرعب إنما يقع لما ألقاه الله عليهم من الهيبة، ولأن أعينهم كانت مفتوحة عندما ينظر إليهم الرائي وذلك حال نومهم، وهذا من لطف الرب تبارك وتعالى بهم، وقد بينا أن الرب جل وعلا أسند التقليب إلى ذاته العلية تشريفاً لهم وبياناً للطفه تبارك وتعالى بهم.
من هذه القصة على وجه الإجمال -وأنا سردتها باختصار؛ لأنني معني بآية واحدة- يتبين لنا: أن الله جل وعلا خير حافظ، وأنه الرب الذي لا رب غيره، ولا إله سواه، وأن من استعصم بالله آواه، ومن لجأ إلى الله جل وعلا كفاه، ومن استغنى بالله جل وعلا أغناه، فالله جل وعلا لم يقص علينا خبر أصحاب الكهف حتى نحدث به الغير كالأقاصيص والأحاديث والأغاليط معاذ الله، فهذا كلام رب العزة، ويجب أن ينزل على أفضل تنزيل وأعظمه، فالله جل وعلا ذكر لنا خبرهم ليقيم الحجة على من سأل نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكون في جوابه عليه الصلاة والسلام إشعار بأنه يتلقى الوحي والغيب من الرب تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت نتعظ بخبر أولئك القوم، ونعلم أن الرب تبارك وتعالى أراد بهم خيراً، وحفظهم فلم تصل إليهم يد الأعداء، ولا مكر الماكرين، وهذا لا يقع إلا إذا كان بحفظ رب العالمين جل جلاله.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وجعلني الله وإياكم ممن يتعظ بهذا القرآن العظيم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.