تقديم ما حقه التأخير في القرآن الكريم وبيان الحكمة من ذلك
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة بإذن الله من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية).
وما سنشرع في إيضاحه اليوم يتعلق بتقديم ما حقه التأخير في كلام ربنا جل وعلا، ولماذا قدم الله تبارك وتعالى بعض ما حقه التأخير؟ هذا ما سنشرع فيه، والآيات التي نحن بصدد ذكرها عديدة.
سنبدأ بذكر قول الله جل وعلا: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١١].
نقف عند قول الله جل وعلا: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وهذا اللفظ ورد في ثلاثة مواضع في آيات المواريث، ورد هاهنا، وورد في قوله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢].
وورد في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢].
وورد في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] ومن المتفق عليه عند الفقهاء رحمهم الله تعالى: أن الدين مقدم على الوصية، والسؤال هنا: لماذا قدم الله جل وعلا الوصية في هذه الآيات وهي آيات المواريث؟! والجواب عن هذا: قال العلماء رحمهم الله في أمثل الأجوبة: إن الوصية قد لا يوجد من يبحث عنها، ولا يدري أن هناك وصية، بخلاف الدَّين، والمعنى: لو أن رجلاً ترك ديناً عليه وترك وصية مكتوبة، فربما أكثر من يرثه لا يدري أن هناك وصية فلا يطالب بها، أما الدَّين فمهما كانت رقة أولئك أصحاب الدين على الذي توفي -كثرتهم أو قلتهم- تبقي فيهم أحياناً من يعلم أن هناك ديناً له على المتوفى، فيأتي فيطالب به.
إذاً: جماع الأمر أن نقول: إن الدَّين غالباً ما يكون وراءه مطالب، بخلاف الوصية فقد لا يدرى عنها فلا يكون وراءها مطالب، وعلى هذا قدم الله جل وعلا الوصية على الدَّين؛ لأن الدَّين قد يوجد من يكفي الغير أمره، بخلاف الوصية فربما لا يوجد من يعلم عنها شيئاً، فلا يطالب بها، وإلا من حيث إمرار التركة، والتصرف في أموال المتوفى، يقدم النظر في الدَّين على النظر في الوصية لإجماع الفقهاء.
نظير هذا المعنى في كلام ربنا جل وعلا وهو تقديم ما حقه التأخير: نذكر الآن آيتين في سورتي الأحزاب والشورى، ذكر الله جل وعلا فيهن رسله العظام أولي العزم من الرسل، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين في سورة الأحزاب: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [الأحزاب: ٧].
نلحظ هنا: أن الله جل وعلا ذكر النبيين إجمالاً، ثم لما فصل قدم نبينا ﷺ على نوح والأنبياء الذين بعده، بخلاف ما ورد في سورة الشورى، فإن الرب جل وعلا يقول: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: ١٣].
السؤال المطروح هنا: لماذا قدم الله ذكر نبينا ﷺ في الأحزاب، وأخر ذكره بعد نوح في الشورى؟
ﷺ في الأحزاب كان الله جل وعلا يتكلم عن الأنبياء، ولهذا قال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ) فلما كان الكلام عن الأنبياء قدم الله نبينا ﷺ وإن كان آخرهم عصراً، إلا أنه كان ﷺ أفضلهم وأرفعهم ذكراً فقدمه، أما في سورة الشورى فلم يكن الحديث كما كان في الأحزاب عن الأنبياء من حيث كونهم أنبياء، ولكنه كان كلاماً عن الدين، ولا ريب أن نوحاً عليه الصلاة والسلام: أول رسل الله إلى الأرض، فلهذا قدمه الله جل وعلا؛ لأن الكلام هنا عن الدين لا عن الأنبياء الذين يحملون الدين، قال الله جل وعلا: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]، فانظر إلى عظمة القرآن إلى أنه لا يقدم شيئاً أو يؤخر إلا لحكمة ظاهرة بينة يطلع الله جل وعلا عليها بعض خلقه من أصفياء عباده من ركب العلماء، وتغيب عن البعض، وأياً كان الأمر فإن شواهد عظمة القرآن قائمة، علمنا منها ما علمنا، وجهلنا منها ما جهلنا.
ومن نظائر هذا في كلام ربنا تبارك وتعالى: قول الله جل وعلا في آية امتنان عظيمة على عباده، قال: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: ٥ - ٦] هذه الآية في سياق الامتنان، والناظر إلى أنعامه وهي تغدو إلى المراح وإلى رعيها، ليس كنظره إليها وهي في حال أوبتها وعودتها، فإنها إذا عادت تعود عظاماً ضروعها طوالاً أسنمتها، فمنظرها في العين أجل وأمتع وهي عائدة وإن كان منظرها يبقى حسناً وهي ذاهبة إلى المرعى، لكن لما كانت الأنعام في حال أوبتها تملأ العين أكثر، والآية مسوقة في سياق الامتنان، قدم الله جل وعلا ما حقه التأخير زمناً على الذكر؛ حتى يكون الوضع متناسباً مع كون الإنسان يراعي منظر ما يشاهده ويراه من نعم الرب تبارك وتعالى عليه، فالأنعام أملأ في العين حال أوبتها من حال ذهابها إلى المرعى، ولذلك قدم الله جل وعلا ما حقه التأخير زمناً.
في خضم هذا النظر في هذه الآيات التي ذكرناها في النحل وفي الشورى وفي الأحزاب وفي النساء، تتبين لنا عظمة القرآن، وأنه منزل من عند الله تبارك وتعالى، وهذه بعض الشواهد على ما في القرآن من عظيم المكانة، وجليل البلاغة، وروعة البيان التي أسرت العرب قبل ذلك، فكانت سبباً في إسلام كثير ممن من الله عليهم بالهداية، ممن لحقوا بركب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد، والحمد لله رب العالمين.