سنة التدرج الرباني في تحريم الخمر على المؤمنين
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية.
نسأل الله جل وعلا فيها التوفيق والسداد.
والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله جل وعلا في سورة النحل: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: ٦٧].
أيها الأحبة! ندرك جميعاً أن الخمر حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي مما اتفقت كلمة أهل الإسلام على تحريمه، لكننا نلحظ في هذه الآية المباركة التي تلوناها لتونا أن الله جل وعلا ذكر قسمين: الرزق والسكر، فذكر السكر أولاً دون أن ينعته أو يصفه بأي شيء آخر.
ثم ذكر تبارك وتعالى الرزق وأردف قائلا: ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [النحل: ٦٧]، فكلمة (حسناً) كما هو معلوم صفة لرزق، فوصف الله جل وعلا الرزق بأنه حسن، وهو ذلك الرزق المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب، لكن السكوت عن وصف كلمة سكر بأنها حسن كان الإشارة الأولى كما يقول الفقهاء إلى بداية تناول الخمر بالتشريع، وهذا كله من دلالة ما صنعته بلاغة القرآن في نفوس الناس، ذلك أن الرب تبارك وتعالى تدرج عباده كثيراً في قضية تحريم الخمر، ومر تحريمها بأمور عدة أو بدرجات متعددة فكانت هذه الآية -كما يقول الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله- المؤشر الأول في موضوع الخمر والإشارة الأولى إلى بداية تناولها بالتشريع، ولذلك انتبه بعض الأشخاص إليها فتركها لتجرد السكر من الوصف الذي وصف به الرزق بكونه حسناً، وكان مؤثراً فيه ومثيراً للسؤال عنها.
ثم جاءت الآية الثانية وهي قول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩] قال الشيخ عطية رحمه الله: ولعل النص الأول هو الذي جعلهم ينتبهون ويفكرون ثم يسألون فيأتيهم الجواب المفصل، قال الله جل وعلا في المرحلة الثالثة مخاطباً المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣]، فكانت أدخل في الموضوع بالتصريح بنهيهم عن اقتراب الصلاة وهم سكارى -أي: تحريمها عليهم- لأن السكر من لوازم الشرب، وإذا حرم اللازم حرم الملزوم ولكن لزمن مؤقت، حتى نزل قول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩٠ - ٩١].
من هنا يتبين بوضوح: منهج التدرج والتصعيد لتناول الموضوع، أما التدرج فهو بداية أخذهم بما يلفت النظر فقط، وهو أن الله جل وعلا جعل الأمر قسيمين كما بينا، فجعله سكراً وجعله رزقاً، فنعت رزقاً بكلمة (حسناً) ولم يعقب جل وعلا على كلمة سكر بأي نوع من الصفات، وهذا مما أدرجناه في بيان لفت النظر.
من حيث الاستحسان والتقبيح في النص الأول في وصفه الرزق من الثمرات الباقية على أصل خلقتها بأنه حسن، والسكوت عن قسيمه الذي هو السكر والذي هو من ضمن اتخاذهم بأيديهم، وبالتالي فإن مفهوم المخالفة للحكم هو القبيح بلا شك.
قال بعض العلماء: وهم -أي: العرب- أهل ذوق بلاغي وفطنة وسليقة، وهذا الذي حداهم للتساؤل عن الخمر والميسر، فالنص الأول كان بمثابة المؤشر لبداية تناول هذا الموضوع، فأسلمهم وقادهم تفكيرهم إلى تقديم السؤال طواعية من أنفسهم فجاء قول الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، إذ قد أصبحت الخمر والميسر موضوع تساؤل أخذت شكلاً موضوعياً يتطلب جواب الشرع ورأيه فيه، فجاء الجواب نافذاً إلى صميمه: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٩]، وهذا لا يحتاج إلى إعمال فكر لاستنكاف مدلول مفهوم المخالفة السابق، بل يدركه كل من سمعه ويفهمه بداهة.
الذي يعنينا هنا: أن القضية ليست كنحو فقهي، وإنما القضية ذلك النهج البلاغي الذي رسمه الله جل وعلا للتدرج في تحريم الخمر، وذكره تبارك وتعالى ووصفه للرزق بأنه حسن وسكوته عن القسيم الآخر وهو السكر؛ لأنه جل وعلا كما بينا لم يصفه بأي وصف.
إن القرآن في بلاغته هذه ليسمو بالنفوس ويمهد لها الأحكام الشرعية ويعينها على تقبل كلام الرب تبارك وتعالى، ويرسم منهجاً واضحاً مقتبساً من لغة العرب نفسها التي تعتمد كل الاعتماد على البلاغة، ذلك أن العرب يؤثر فيها البيان، ويجعلها تقبل الأمر أكثر مما تقبله لو كان خالياً ومجرداً من ذلك البيان.
هذا ما أردنا التنبيه عليه، وليس المقصود: التنبيه على مسائل فقهية وأحكام تشريعية، فليس هذا من موضوع الحلقة ولا تنشده أبداً، فهذا له مجاله وفرسانه، لكنا نتكلم عن ذلك البيان الوافي في وصف لغة القرآن، جعلنا الله وإياكم ممن يتعظ به، ويسمع القول ويتبع أحسنه.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الصفحة التالية
Icon