سبحانك هذا بهتان عظيم
إن الحمد، لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة بإذن الله من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الرب تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦].
بداية: هذه الآية جاءت في معرض عتاب الرب تبارك وتعالى لأصحاب محمد ﷺ أو قل لبعضهم ممن خاضوا في حديث الإفك.
وحديث الإفك الذي هو مقرر في السيرة وفي غيرها، الإفك في اللغة: هو القلب، ولأن هذا الحدث فيه قلب للحقائق فقد سماه الله جل وعلا: إفكاً، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور: ١١]، وذلك أن بعضاً ممن يدعي الإيمان في أصله كـ عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين رمى الصديقة بنت الصديق الطاهرة المطهرة زوجة نبينا ﷺ في الدنيا والآخرة بـ صفوان بن المعطل، ثم إنه قدر لذلك الرجل لأمر أراده الله أن ينشر ذلك الحديث في المجتمع النبوي آنذاك رغم أن الذين خاضوا فيه عدد ونزر يسير جداً، لكن الرب تبارك وتعالى بعد شهر من انقطاع الوحي حسم الأمر بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١١].
وليست القضية هنا في معرض حديثنا: هي التعريج على ذكر ذلك الخبر تاريخياً، لكننا نقف بيانياً أمام قول الله جل وعلا: ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦]، لماذا أمر الله جل وعلا عباده أن يقولوا: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦]؟ بداية نقول: أصل (سبحانك) للتعجب من عظيم الأمر، ومعنى التعجب في كلمة التسبيح: أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجب من صنائعه، ثم قد تستعمل في كل متعجب منه، أو لتنزيه الله من أن تكون زوجة نبيه فاجرة، وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة؛ لأن النبي ﷺ مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب ألا يكون معه ما ينفرهم عنه، والكفر غير منفر عندهم، وأما الفحشاء فمن أعظم المنفرات.
والذي أراد الله جل وعلا قوله كما قال المفسرون: هلا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه في القول قلتم تكذيباً له وتهويلاً لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا، ولا ينبغي لنا أن نتفوه به، سبحان ربي هذا كذب صراح! سبحانك ربنا هذا كذب صراح! يحير السامعين أمره لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو بالعليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعد إذاً؟! أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين وشريف الأخلاق؟ وإنا لنبرأ إليك ربنا من أن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة في انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
قال بعض أهل العلم: خلاصة هذا: أنه ننزه ربنا من أن ترضى بظلم هؤلاء، وألا تعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجور، والعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا؛ لأن فيه إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [الأحزاب: ٥٧]، ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها؛ ولأن في إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلق بأخلاق الله ونحو ذلك.
المقصود من هذا -أيها المباركون- هو: أن نبين أن القرآن باستخدامه للفظ: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦] فيه ارتقاء بدرجة النبي ﷺ إلى منزلة عالية من الكمال البشري، وهو كذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وحديث الإفك -كما هو معلوم- خاض فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وكان قد أعطي قدرة كبيرة على المدارة، فكان يشيع في الناس دون أن ينسب ذلك إليه، ولذلك سلم من الجلد -أي: من عقوبة القاذفين- وممن ابتلي بذلك الأمر صفوان بن المعطل رضي الله عنه الذي رميت به زوجته، ويقال: إن إحدى أمهات المؤمنين سألت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ماذا قلت عندما هممت بركوب دابة صفوان بن المعطل رضي الله عنه؟ ومعلوم أن صفوان أناخ بعيره لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ولم يزد أن استرجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلما حملها سئلت بعد ذلك بعد أن وضعت الأمور نصابها، وجاء الحق من رب العالمين، وفصل الحق تبارك وتعالى في القضية، وبرأ عائشة وصفوان، سئلت أم المؤمنين ماذا قالت؟ فقالت: قلت: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فانظر يا أخي! إلى عظيم أثر هذه الكلمة؛ فإن الله جل وعلا حفظ زوجة نبيه بقدره، ومما حفظه الله جل وعلا بها أن ألهمها أن تقول حسبنا الله ونعم الوكيل وهي تركب الدابة، كما ألهم الله جل وعلا صفوان أن يقول عندما رأى أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها وعلم أنه قد ابتلي بها لكونهما في الخلاء لوحدهما قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأنزل الله جل وعلا في حقهما رضي الله تعالى عنهما كتاباً يتلى إلى يوم القيامة يظهر الله جل وعلا فيه براءتهما، قال الرب تبارك وتعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: ٢٦] جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وهدانا الله وإياكم لهدي الأنبياء وسننهم.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان العلي الكبير على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.