اختلاف التصوير القرآني لبعث الناس ما بين الجراد المنتشر والفراش المبثوث والسر في ذلك
الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه مهاجرين وأنصاراً.
أما بعد: فهذه حلقة مباركة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية.
وسنعرج في هذا اللقاء المبارك على آيتين من كلام ربنا تبارك وتعالى: الأولى في سورة القمر، والثانية في سورة القارعة.
أما التي في سورة القمر: فهي قول الله جل وعلا يذكر بعث الناس: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧]، والآية الثانية في سورة القارعة: هي قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: ٤].
ومعلوم قطعاً: أن يوم القيامة يوم مهول يفزع فيه الخلائق، ويخرجون من قبورهم، قال الله جل وعلا: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: ٥١ - ٥٢].
هاتان الآيتان تصوران خروج الناس من القبور وذهابهم إلى أرض المحشر، والسؤال هنا: كيف يخرجون؟ قال الله جل وعلا في القارعة: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: ٤]، وعاد وقال تبارك وتعالى في سورة القمر: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧].
ومعلوم: أن حركة الفراش غير حركة الجراد، فحركة الفراش يسومها الاضطراب، وعدم التوافق، وعدم الانتظام، بخلاف حركة الجراد فإنها تصبغ بالانتظام والانضباط مع الكثرة، فالكثرة موجودة في الطرفين في الفراش والجراد، لكن الاضطراب سمة للفراش، والانتظام سمة لحركة الجراد.
ومعلوم: أن المبعوثين أنفسهم لا يتغيرون في حال وصفهم بالفراش، وهم أنفسهم في حال وصفهم بالجراد، فهل يوجد بين الآيتين تعارض؟ التخريج أن يقال: إن الناس أول ما يخرجون من قبورهم يخرجون مضطربين، قال الله جل وعلا: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ [الكهف: ٩٩].
فالبعث يكون بالنسبة للناس أول مرة وآخر مرة، فالناس لم يعرفوا البعث من قبل، ولم يعرفوا النشور من قبل، فلا يدرون أين يذهبون؛ ولذلك تضطرب حركتهم ولا تنتظم، ففي هذه الأثناء صورهم تبارك وتعالى بأنهم فراش، ثم لا يلبث أولئك الناس أهل المحشر أن يتقدمهم ملك كريم هو إسرافيل، قال الله جل وعلا: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ﴾ [طه: ١٠٨]، لاحظ حركة الانتقال، انتقلوا من كون حالة الفراش التي تصبغ وتوسم بأنها حركة اضطراب إلى حركة الجراد التي توسم بأنها حركة منتظمة، قال ربنا وهو أصدق القائلين: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] فيصبحون منتظمين خلف ملك كريم يقال له: إسرافيل، بعد أن يكون إسرافيل قد دعاهم إلى أرض المحشر.
وقد أخبر الله عز وجل بتلك الدعوة، وأنبأ عنها في خاتمة سورة ص، وقال في طه: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾ [طه: ١٠٨].
إذاً: نفهم من هذا أن الرب تبارك وتعالى صور حال المبعوثين من القبور صورتين: صورة أولية شبهها بالفراش لعدم الانتظام ولوجود الاضطراب.
وصورة ثانية: شبههم بالجراد لحال انتظامهم واتباعهم لقائدهم إلى أرض المحشر وهو إسرافيل عليه السلام.
ندخل استطراداً هنا من باب تعميم الفائدة وزيادتها على سورة القمر: فسورة القمر سورة مكية تعنى بما تعنى به السور المكية عادة: وهو الكلام عن أصول العقيدة الثلاثة: إثبات الألوهية لله تعالى، إثبات الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر البعث والنشور، وقوله جل وعلا: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧]، يندرج تحت الأمر الثالث وهو ذكر البعث والنشور، وسميت بهذا الاسم لذكر القمر فيها، والقمر آية من آيات الله، ويقال له مع الشمس: القمران من باب التغليب.
وهذه السورة: هي إحدى السور التي يقرن النبي ﷺ بها مع أخرى في بعض المناسبات، ومما يقرن النبي عليه الصلاة والسلام به، واشتهر في الصحيح والسنن ثلاث قرائن: فقد قرن عليه الصلاة والسلام بين سبح والغاشية، وكان يقرأ بهما في الجمع والأعياد، وغالباً ما يقرن في يوم الجمعة فجراً بين آلم تنزيل السجدة وبين سورة الإنسان، كما كان ﷺ يقرن في الجمع والأعياد ما بين سورة قاف وسورة القمر.
هذا ما تيسر حول التعريف بالسورة، فإذا عدنا إلى ما حررناه آنفاً من قول الرب تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: ٤]، وقول الرب تبارك وتعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] ساقنا هذا وقادنا مع أخذنا ذلك البيان الرباني ومعرفتنا ببلاغة القرآن: أن نجعل منه واعظاً لقلوبنا، والقرآن واعظ وأعظم واعظ، وهي سمة لا ينبغي أن تنفك عن كل من يقرأ القرآن.
ولابد أن يلحظ أن القرآن أراد الله جل وعلا به في المقام الأول: وعظ القلوب، قال الله جل وعلا عن ثلة من عباده الصالحين: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: ٨٣]، فمعرفة القرآن الحق: أن الإنسان يفيض دمعه، ويوجل قلبه، ويقشعر بدنه إذا سمع آيات الرب تبارك وتعالى، فليست القضية فقط ذكر أحوال الناس على صورتين: كالفراش والجراد، والوقوف عند هذا والاكتفاء به، هذا محال، لكن الإنسان يصيبه الهول، ويصيبه الخوف، فإذا خاف وفزع عمل لما يدفع ذلك الفزع والخوف عن نفسه، وهذا لا يكون إلا بالإيمان بالله، والعمل الصالح، والتقرب إلى الرب تبارك وتعالى بما يحبه ويرضاه حتى يأمن الإنسان من أهوال يوم الوعيد.
فالمؤمن إذا تذكر الموت وسكرته، وتذكر القبر ووحشته، وتذكر النفخ في الصور وفزعته، وتذكر الصراط وزلته، خاف وارتعب وعمل صالحاً، فإذا خاف في الدنيا فلا يجمع الله على عبد خوفين فيؤمنه الرب تبارك وتعالى، والله لا يعطي عبداً أمنين، فمن أمن الرب تبارك وتعالى في الدنيا أخافه الله جل وعلا يوم القيامة.
رزقني الله وإياكم الأمن يوم الوعيد، وألحقنا الله وإياكم بكل بر سعيد.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان العلي الكبير على قوله، حول التعليق على آيتين مباركتين في سورة القارعة وسورة القمر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.