أمران ونهيان وخبران وبشاراتان في آية واحدة كيف ذلك؟!
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية)، وعلى غير العادة فسنبدأ حلقتنا هذه بخبر أدبي نزدلف بعده إلى الآية التي نحن بشأن الحديث عنها: حكى الأصمعي: أنه سمع جارية أعرابية تنشد وتقول: أستغفر الله لذنبي كله قبلت إنساناً بغير حله مثل الغزال ناعماً في دله فانتصف الليل ولم أصله قال: فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! قالت: أو يعد هذا فصاحة مع قول الله جل وعلا: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]، فقد جمع الله جل وعلا في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
وهذه هي الآية التي نحن بشأن الحديث عنها، فالحديث هنا عن كليم الله موسى بن عمران أيام طفولته، ونتذكر أمه رضي الله عنها وأرضاها لما وضعته وأصابها الخوف عليه، وذلك أن فرعون كان يقتل من يولد من غلمان بني إسرائيل، ثم بدا له أن يقتل عاماً ويترك عاماً، فولد هارون في العام الذي لا قتل فيه، وولد موسى بقدر الله في العام الذي فيه قتل، قال الله جل وعلا يذكر الخبر قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ [القصص: ٧] وهذا فيما يظهر: وحي إلهام ﴿إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧]، وهذا هو الأمر الأول في الآية، وأرضعته؛ لأنه لابد له من الرضاعة.
﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ [القصص: ٧]، وقول الله جل وعلا: ((فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)) هو الأمر الثاني في الآية، وما زلنا في آية واحدة وإلى الآن تضمنت أمرين: فأول الأمر: أن ترضعه ولا تخشى من فطنة الدايات له، فإن أصابها الخوف ولم يطمئن القلب، فعليها أن تلقيه في اليم، ومعلوم أن البحر الذي هو اليم مظنة خوف، مظنة هلاك، مظنة موت، لكن كل شيء جند لله تعالى إذا أراد، فكان البحر جنداً لله، فحفظ الله بأمواج البحر كليمه موسى حتى أوصله اليم إلى قصر فرعون.
ثم بعد أن ذكر الأمرين ذكر تبارك وتعالى النهيين: ﴿وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي﴾ [القصص: ٧]، لا تخافي أن يصيبه أذى، أن يصيبه ضرر، أن يهلك أن تفقديه، ولا تحزني لفراقه، لماذا لا تحزني لفراقه؛ قال: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧] (رادوه إليك) للرضاعة مرة أخرى، (وجاعلوه من المرسلين) في مستقبل أيامه، وفي مقدم عمره إذا جاوز الأربعين، وبلغ أشده واستوى فسيكون نبياً رسولاً، فهذا وعد من العلي الكبير لأم موسى: أن الله جل وعلا سيرد إليها ابنها، وأن ابنها هذا سيكون له شأن عظيم إذا كبر، وأي شأن أعظم من مقام النبوة والرسالة التي أعطاها الله جل وعلا لأولئك الصفوة من الخلق، والله يقول: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، فهذه آية واحدة من كلام الرب تبارك وتعالى: تضمنت خبرين، وتضمنت أمرين: (أن أرضعيه) و (فألقيه)، وتضمنت نهيين: (ولا تخافي ولا تحزني) وتضمنت بشارتين: (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
وما يلفت النظر هنا -إذا خرجنا من سياق البلاغة قليلاً- نجد أن أم موسى عليه السلام رغم الوعد الرباني لها بأن الله جل وعلا سيرد لها ابنها إلا أنها بعثت أخته لتحسس خبره: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١]، وقد فهم العلماء من هذا: أن الإنسان لا ينبغي عليه أن يعجز عن طلب مقصوده، لكنه يطلبه بجوارحه، وأما ما في القلب فإنه يطلبه بقلبه مع الرب تبارك وتعالى، يطلبه بجوارحه مع الناس، ويطلبه بقلبه في تعامله مع ربه تبارك وتعالى، فالتوكل: عبادة قلبية يُتعبد بها الرب تبارك وتعالى بين العبد وبين ربه.
نعود في هذه الآية المباركة التي قال الله جل وعلا فيها: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ [القصص: ٧]، وقد صدقها الله عده، ورد ابنها إليها، بل جعل الله جل وعلا من شفتي موسى جنداً من جنوده فلا يقبل أثداء المرضعات، فكلما عرضت عليه مرضعة أعرض عنها عليه السلام، وهو يوم ذاك صغير أحوج ما يكون إلى الرضاعة، لكن الله جل وعلا يقول: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ [القصص: ١٢]، وهذا يا أخي! تحريم منع، لا تحريم شرع.
فلما امتنعت شفتا موسى أن تقبل أثداء النساء رده الله جل وعلا إلى أمه على أنها مرضعة وليست أماً في نظر فرعون، فكان فرعون يعطيها أجراً على رضاعتها لموسى، فتأمل يا أخي! رحمة الله جل وعلا بموسى وبأمه، ترضعه أمه وهي أمه يجب عليها إرضاعه، ومع ذلك تأخذ أجراً ونفقة من فرعون دون أن يدري فرعون أنه يعطي الأجر والنفقة لأم موسى.
تلك كلها تدل على أن هناك عناية إلهية وحفظاً، إذا أعطاه الله جل وعلا فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
نعود فنقول: هذه بلاغة القرآن: يؤتى بالخبر الموجز والسياق المختصر ويتضمن معاني ثرية، يجول الخاطر فيها والبيان أي ما جولة، من عظمة ما ذكره الله جل وعلا في آيات موجزة كما قالت تلك الأعرابية: وأي فصاحة تعد هذه مع قول الله جل وعلا: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان العلي الكبير على قوله، حول قول الله جل وعلا في الآية السابعة من سورة القصص، راجين أن نكون قد أمطنا اللثام عما أردنا بيانه، والله المستعان وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الصفحة التالية
Icon