المقصود بتكرار الضعف والقوة في أواخر سورة الروم وبيان أطوار خلق الإنسان
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أشار إلى الغمام فتفرق بإذن الله إكراماً لإشارته، وأشار إلى القمر فانفلق ليكون شاهداً على نبوته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية) والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله جل وعلا: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤]، وتحرير معنى الضعف ومعنى القوة والشيبة في هذه الآية الكريمة هو ما نحن بصدد الحديث عنه: وابتداءً نقول: إن الله تبارك وتعالى خلق خلقه أطواراً، وصرفهم جل وعلا كيفما شاء عزة واقتداراً، أما معنى الآيات فيجب التنبه إلى ما يلي: يقول الله جل وعلا: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [الروم: ٥٤] أي: أن الله الذي يستحق منكم العبادة أوجدكم معشر الإنسان من ضعف، (ضعف) هنا بمعنى: من أصل ضعيف، وهو النطفة أو التراب إذا قلنا على تأويل المصدر باسم الفاعل، والضعف عقلاً ونقلاً: هو خلاف القوة، (ثم) وهي للتراخي في الزمان (جعل) أي: خلق، لأنه عُدي لمفعول واحد.
(من بعد ضعف) هذا موضع ما نريد إماطة اللثام عنه في هذه الحلقة، وهو: أن الضعف هنا غير الضعف الأول الموجود في قوله جل وعلا: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ [الروم: ٥٤] فليست المسألة مسألة تكرير، هذا الضعف الآخر ليس الضعف الذي قلنا في الأول عنه: بأنه من النطفة والتراب، لكنه الضعف الموجود في الجنين والطفل، يقول الله جل وعلا: ﴿مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً﴾ [الروم: ٥٤]، القوة: هي القوة التي تجعل للطفل من التحرك ودفعه الأذى عن نفسه بالبكاء وأمثاله ونحوه.
ثم قال ربنا: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [الروم: ٥٤] وقوة هنا: تختلف عن القوة المذكورة قبل قليل، وقد قدمنا أن (ثم) للتراخي في الزمان، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [الروم: ٥٤] أي: من بعد قوة أخرى، هي: التي بعد البلوغ، وهي قوة الشباب (ضعفاً) وهذا الضعف -أيها المبارك- ضعف آخر، وهو: ضعف الشيخوخة والكبر.
ثم قال الله جل وعلا: (وشيبة) أي: شيبة الهرم، والشيب والمشيب: بياض الشعر، وفي قوله: (ضعف) وقوله (قوة) إشارة إلى حالة غير الحالة الأولى، فقد ذكره منكراً، والمنكر -أيها المباركون- متى أعيد ذكره معرفاً أريد به ما تقدم، فقولك: رأيت رجلاً فقال لي الرجل كذا، ومتى أعيد منكراً فسياق القرآن في هذه الآية أن يراد به غير الأول.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله جل شأنه: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥]، قال رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسيرين، هكذا حققه الإمام الراغب، وتبعه عليه أجلاء المفسرين، وهو الموافق للقاعدة المشهورة عند العلماء التي نظمها السيوطي رحمه الله في عقود الجمان بقوله: ثم من القواعد المشتهرة إذا أتت نكرة مكررة تغايرا وإن يعرف ثاني توافقا كذا المعرفان فهذه القاعدة إجمال لما بيناه من قبل ولما حررناه آنفاً: من أن الضعف المكرر في الآيات مع الإبقاء على التنكير يدل على أن الضعف الأول: هو ضعف التراب والنطفة، والضعف الثاني: هو ضعف الإنسان وهو جنين في بطن أمه، والضعف الثالث الذي بعد ذلك الذي يعقب القوة هو: ضعف الشيبة والكبر، كما أن القوة في الأول: هي قوة الطفل وقدرته في المراحل الأولى من حياته على دفع الأذى عن نفسه، أما في الثانية: فإنها قوة الشباب والبلوغ.
وعلى هذا يتضح: أن تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالاً بعد حال من ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف دليل على قدرة الخالق الفعال لما يشاء، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه أن يعيدكم مرة أخرى، ولهذا ناسب جل وعلا أن يقول بعد ذلك: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [الروم: ٥٤] أي: يخلق ما يشاء تبارك وتعالى ولا ملزم عليه -من ضعف وقوة وشباب- أن يخلق الأشياء كلها التي من جملتها الضعف والقوة والشباب، فليس هذا كله طبعاً، بل بمشيئة الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: ٥٤] أي: العليم بتدبير خلقه، القدير على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وهو كما يفعل هذا قادر على أن يميت خلقه ويحييهم إذا شاء.
من هنا يتضح -أيها المباركون- أن الرب تبارك وتعالى كما بينا خلق خلقه أطواراً، وفي علم الإنسان بقدرة الله جل وعلا، وفي رؤيته لنفسه أي: أن الإنسان إذا رأى نفسه وتقلب أحواله، وتغير أيامه، وما يعتريه من ضعف وقوة، وقوة وضعف، علم بعد ذلك كله عظيم قدرة الله جل وعلا، ولعل هذا يندرج تحت قول الله تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١].
والمقصود من هذا كله بعد تحرير المعاني والألفاظ وإماطة اللثام مما يغلب على الظن: أنه غير مشهور ومعروف لدى العامة على الأقل، فإننا نقول: إن هذا كله يدل على قدرة الرب تبارك وتعالى، وهذه أعظم غايات القرآن أن يعرف بالرب جل وعلا، وهل قضى أنبياء الله ورسوله أيامهم وأعمار حياتهم إلا في التعريف بربهم تبارك وتعالى والإرشاد إليه، وبيان عظيم قدرته وجليل رحمته، وسعة حكمته، والمؤمنون متى عظم علمهم بالله سهلت عليهم الطاعات وأحجموا عن المعاصي، وقد قال السلف: إن العبد كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف.
هذا ما تحرر إيراده، وتيسر إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، سائلين الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.