ويسألونك عن الروح
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه أيها المباركون حلقة جديدة مباركة بإذن الله من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية) والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء: هي قول الله جل وعلا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، إلا أننا نبين في مستهل هذه الحلقة: أن ثمة ألفاظ سنعرج في الحديث عنها، وكيفية استعمال القرآن لها وهي: الروح، والجسم، والجسد، والنفس، فحول هذه الأربعة الألفاظ سنعرج على معاني عديدة بإيجاز.
أما قول الله جل وعلا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: ٨٥]، فإن أهل العلم من المفسرين: يذكرون في سبب نزولها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه كان مع النبي ﷺ فمر صلوات الله وسلامه عليه على ملأ من يهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه، وقال آخرون: لا تسألوه، ثم إن اليهود سألوه فقالوا: يا أبا القاسم ما الروح؟ فاتكأ ﷺ على عسيب نحل، قال عبد الله: فعلمت أنه يوحى إليه، ثم تلا: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥].
واختلف العلماء رحمهم الله في بيان المقصود من الروح هنا، والأكثرون ولعل هذا هو الأظهر: أنها الروح المعروفة التي تمتزج بالبدن وتكون منها النفس الإنسانية المكلفة.
والروح إذا خرجت من الجسد تسمى: روحاً، أما إذا بقيت في الجسد فتسمى: نفساً، ولهذا قال النبي ﷺ لما قبض عثمان بن مظعون قال: (إن الروح إذا صعد تبعه البصر)، أما ما دامت الروح ممتزجة بالجسد أي: أن صاحبها حي، فهذه تسمى: نفساً، وهي التي خاطبها الله جل وعلا بقوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٧]، وأسند الله جل وعلا إليها الكثير من الأفعال، ومنها قوله جل وعلا: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ [آل عمران: ٣٠]، فهذا إسناد من الله جل وعلا للوجود إلى النفس.
والجسد إذا كان خالياً من الروح فإن التعبير القرآني يطلق عليه: لفظ جسد، ومنه قول الرب تبارك وتعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ [الأنبياء: ٨]، وقول الله جل وعلا عن ذلك العجل الذي اتخذه قوم موسى -عياذاً بالله- إلهاً لما أضلهم السامري، قال الله جل وعلا: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ﴾ [طه: ٨٨]، ومعلوم قطعاً: أن ذلك العجل الذي أخرجه السامري لقومه لم يكن فيه روح ألبتة، فلا قدرة للسامري ولا لغيره على الخلق.
ويعبر القرآن بالجسم إذا كان ذلك الجسد ممتزجاً بالروح، أي بمعنىً أوضح: تدب فيه الحياة، ومنه قول الله جل وعلا عن المنافقين: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ [المنافقون: ٤]، فقول الرب تباك وتعالى: (أجسامهم) إنما يتكلم عن قوم أحياء وهم المنافقون الذين كانوا آنذاك معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، والذي يعنينا من الخطاب القرآني هنا: أن الله جل وعلا لما كانوا أحياء تمتزج أرواحهم بأجسادهم فإنها تسمى: أجساماً وهي حية، وقد عبر الله جل وعلا عنها بقوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ [المنافقون: ٤]، ونظيره كذلك في القرآن: قول الرب تبارك وتعالى عن طالوت لما حكى ذلك النبي من الأنبياء الذي أخبر الله قومه: أن الله جل وعلا قد بعث لهم طالوت ملكاً، قال عنه: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ [البقرة: ٢٤٧]، فعبر بكلمة (الجسم) دون كلمة (الجسد)؛ لأنه يتكلم عن شخص امتزجت روحه بجسده، فأصبح الجسد جسماً، وأصبحت الروح نفساً، ولا ريب أن الروح والنفس بمعنى واحد، نعود فنقول: إن الله جل وعلا خلق الأرواح قبل الأجساد؛ لأن الله جل وعلا خلق أبانا آدم لما كنا في عالم الأرواح كما تدل عليه آيات القرآن في الأعراف وغيرها من حيث العموم، ثم إن الرب تبارك وتعالى خلق أجسادنا بعد ذلك أجنة في بطون أمهاتنا.
ثم يأتي ذلك الملك الذي أوكل الله جل وعلا إليه أن ينفخ فينا الروح فينفخ فتدب الحياة فينا، فإذا امتزجت الروح مع الجسد ونحن أجنة في بطون أمهاتنا يحدث نوع من الاتصال، ثم يكون هناك اتصال أكبر في الحياة الدنيا، ثم ينقطع ذلك الاتصال بين الروح والجسد وهو المقصود بالموت، ثم بعد ذلك تعود الأرواح إلى الأجساد بعد البعث والنشور وهذا الاتصال هو: اتصال كامل تام، وهو الذي عبر القرآن عنه: بالخلود، وجاء في الحديث: (يؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح ما بين الجنة والنار، بعد أن يسأل أهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويسأل أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ثم إنه يذبح وينادي منادٍ: أن يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وأن يا أهل النار! خلود بلا موت)، وهو المعبر عنه في القرآن بيوم الحسرة، قال الله جل وعلا: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم: ٣٩ - ٤٠].
وقد تعلق بعض الفلاسفة بمسألة النفس والروح، ومنها قول ابن سيناء لما تلكم عن أن الإنسان لم يختر روحه فقال: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع هبطت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات توجع والحديث هنا عن النفس الإنسانية، وعن ممازجتها ومخالطتها للجسد وما يكون منها من طلب للعلو، وهذه القصيدة التي قالها ابن سيناء عارضها شوقي رحمة الله تعالى عليه تعالى بقوله: ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي هذي المحاسن ما خلقن لبرقع ويجب التنبيه هنا: إلى أن شوقي يقصد بسعاد كناية عن النفس البشرية، كناية عن الروح، ولا يقصد امرأة بعينها أو فتاة بنفسها، فليس القضية لها علاقة بالحجاب سلباً ولا إيجاباً ولا يدعُ إلى ذلك في أبياته هذه وإنما المقصود منها: أن النفس البشرية يجب أن تنطلق في عالم المعالي وتبحث عما ينفعها، ولا ريب أنه لا ينفعها شيء مثل الإيمان بالرب تبارك وتعالى والعمل الصالح، والسعي في فكاكها وزحزحتها عن النار، جعلنا الله وإياكم ممن زحزح عن النار وأدخل الجنة.
هذا ما تيسر إيراده حول هذه الألفاظ الأربعة وهي: الروح، والجسم، والجسد، والنفس، تكلمنا عنها وفق السياق القرآني، وأمطنا اللثام عن الطرائق التي يتخذها القرآن سبيلاً في الحديث عن روح الإنسان ونفسه، أو عن جسده وجسمه، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الرب العزيز الكريم على قوله، سائلين الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.