من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه أيها المباركون! حلقة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية: والآية التي نتوج بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله جل وعلا في سورة يوسف: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: ١٠٠].
تمهيداً نقول أيها المباركون: إن يوسف عليه الصلاة والسلام نبي ورسول ثابتة نبوته ورسالته بالقرآن: قال الله جل وعلا في غافر: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [غافر: ٣٤]، وما دام رسولاً فهو قطعاً نبي، والذي نريد أن نميط اللثام عنه في هذه الآية: أن نبين كيف أن الله جل وعلا هنا عندما حكى خبر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن من الله جل وعلا عليه بنجاته من تلك الكربات العظام التي مر بها في حياته عندما كان بين إخوته عند أبيه، ثم ما كان من شأنه مع امرأة العزيز، ثم قبل ذلك بيعه بدراهم معدودة، وزهد من باعه فيه، ثم ما كان من سجنه صلوات الله وسلامه عليه، ثم ما أفاءه الله جل وعلا عليه بعد ذلك من ظهور براءته وعلو شأنه، وتوليه بعض مقاليد الأمور، ثم ما من الله جل وعلا عليه بتحقق رؤياه من سجود أبيه وأمه وإخوته له سجود تحية، وليس سجود عبادة.
في هذه الأجواء التي نصر الله جل وعلا فيها هذا النبي الكريم وأبوه ينظر إليه وإخوته يتقربون منه يقول عليه السلام -بعد أن ذكر الله جل وعلا أنه قد عفا عنهم- أخذ يذكر تلك الأيام الخوالي، لكنه نبي وأي نبي، فقد كان مؤدباً جداً في كلامه وملاطفته لإخوته، فهو يريد أن يقول: إن الله جل وعلا امتن علي وأنعم علي وأظهرني وأفاء علي بفضله ورزقني الصبر أيام البلاء ثم رزقني النعمة، ثم رزقني الشكر على النعماء، فأراد أن يقول ذلك لكنه اختار عبارات لا تجرح إخوته؛ لأنه قد عفا عنهم، فلو عاد وجرحهم وحرك مشاعرهم بما لا يناسبهم فكأنه لم يعفو عنهم.
فلهذا أراد يوسف أن يختار عبارات تصور الأحداث التي سلفت وتجمل ما وقع من أمور دون أن يكون في ذلك أي غضاضة على إخوته، ودون أن يحاول من ذلك أن يستثير غضبهم أو على الأقل أن يبين لهم نقصهم بالنسبة إليه، قال: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [يوسف: ١٠٠]، ومعلوم: أن إخوة يوسف هم الذين اعتدوا عليه وكادوا له، وهم الذين تآمروا عليه.
أما هو صلوات الله وسلامه عليه فلم يقع منه شيء ألبتة نحوهم، فلا توجد مسألة نزاع بين طرفين كل منهم تحمل كبر الموضوع، وإنما هم إخوة رأوا الحظوة والمكانة والمنزلة التي كانت ليوسف عند أبيه وعند أبيهم فحسدوه، وأرادوا أن يكيدوا له فكان منهم ما كان من الوقائع التي ذكرها الله جل وعلا في كلامه، لكن يوسف يريد أن يقول هذا دون أن يجرح تلك المشاعر فقال عليه السلام: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [يوسف: ١٠٠].
إن هدى الله جعله الله جل وعلا نبراساً لأنبيائه فأضحى هدي الأنبياء بالنسبة لنا معلماً يجب أن نتأسى به ونتحلى به، وعلى هذا فالله يقول: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]، كل من حولنا ممن عظم حقه كالوالدين، أو من كان بعدهم كذوي القربى، أو من كان أبعد قليلاً وله حق وهم المسلمون الذين يحيطون بنا ونتعامل معهم يجب علينا أن نختار أكمل العبارات وأجمل المفردات ونحن نخاطبهم مراعاة لمشاعرهم، وهذا هو هدي قويم، وطريق مستقيم، علمه الله أنبياءه ورسله، ورزق نبينا ﷺ الذي هو خاتمهم وسيدهم الدرجة العالية فيه صلوات الله وسلامه عليه، يثني عليه ربه بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩].
أنت أيها الأخ المبارك! تزداد رفعة وأجراً وتكبر في أعين الناس إذا كنت تحرص جيداً على مشاعرهم؛ ألا ترى إلى رسول الله ﷺ وهو يحدث عن السبعين ألفاً، ثم يقوم له عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه فيقول: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ قال: أنت منهم، فقام رجل آخر وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ قال: سبقك بها عكاشة).
والمسألة حرفياً ليست كذلك وإنما المقصود: أن يبين النبي ﷺ له أن الله لم يكتب له أجلاً أن يكون من أولئك السبعين، لكن النبي اختار عبارة ذات لطف ومراعاة لمشاعر وخاطر ذلك الرجل الصحابي الجليل، فقال له: (سبقك بها عكاشة)، فأوصل له المعنى في مفردة مقبولة جميلة يظهر من خلالها الأدب الجم والخلق الرفيع لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى هذا نحن كما قلنا سلفاً: نختلط كثيراً بالناس وتخرج منا عبارات، من المعلم لطالبه، من الوالد لولده، ومن الولد لوالده، ومن الجار لجاره، فكلما انتقى الإنسان مفرداته، واختار عباراته، وتأدب في الخطاب مع الغير، حتى وهو يطالب بحقه، كان أكمل هدياً، وأقوم طريقة، ووصل إلى غايته دون أن يحصل من ذلك إثماً، وقد قيل: أؤخي إن البر شيء هين وجه طليق أو لسان لين هذا ما تيسر إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، حول الآية المائة من سورة يوسف: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: ١٠٠].
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته