المعالم البيانية في قوله تعالى: (وإذا الموءدة سئلت * بأي ذنب قتلت)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة من حلقات برنامجكم المبارك: معالم بيانية في آيات قرآنية.
والآيات التي سنشرع في بيان بعض معالمها البيانية في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله جل وعلا في الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة التكوير: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩].
بداية نبين أن الموءودة: هي الفتاة التي دفنت حية، وهذا الفعل كانت تفعله العرب في جاهليتها، وأهل التاريخ يقولون: إن سبب ذلك: أن رجلاً منهم في أول الأمر غزاه أعداء له، فأسروا أهله، وكان من ضمن الأسر ابنة له، هذه الفتاة بعد أن استطاع أبوها أن يصطلح مع أعدائه خيرت ما بين أبيها وما بين آسرها، الذي قيل: إنه تزوجها.
فلما تزوجها هذا الرجل وخيرت ما بينه وهو آسر لها في الأصل وما بين أبيها، اختارت زوجها الآسر، فأعقب ذلك حنقاً في قلب أبيها، فأقسم ألا تلد له ابنة إلا ذبحها وهي حية.
هذا فيما يزعمون أنه أصل الوأد في العرب، فتبعته العرب على ذلك، وله سبب آخر: هو الفقر والإملاق وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله في حلقة أخرى.
لكن سنقف هنا عند السبب الذي يتعلق بخوفهم من العار والشنار، قال الله جل وعلا عنهم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: ٥٨ - ٥٩].
هذا التعميم والذكر الكامل للقضية عندهم في جاهليتهم وذكر أخبارهم أردفه الله جل وعلا وأعقبه في سورة التكوير بقوله: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩].
ما السبب الذي نحاول كشف اللثام عنه في هذا اللقاء؟ السبب: هو لماذا وجه السؤال للموءودة، ونحن نعلم أنه لا ذنب لها؟ ولم لم يوجه السؤال لمن قام بالوأد؟ هذا الذي يتبادر أول الأمر وبادي الرأي لمن يقرأ الآية، ومعلوم أن القرآن عظيم منزل من رب كريم، فما عجزنا عن فهمه فإنا نتهم أفهامنا، وإلا فالقرآن هو الأسبق في أخباره، والأسمى في بيانه، والأشد وعظاً في عبارته.
فنقول: من أجمل الأجوبة في هذا أن يقال: إن أولئك الذين يقومون بالوأد لا يقيم الله جل وعلا لهم يوم القيامة وزناً، ولا يحفل الله جل وعلا بهم، وليس لهم عند الله أدنى كرامة في يوم العرض الأكبر، ومن دلائل هوانهم على الله وأنهم ليس لهم وزن في ذلك المقام العظيم: أن الأسئلة لا توجه لهم، ولا يحفل بهم، ولا يعتبر وجودهم، فهم أقل من أن يخاطبوا، وأدنى من أن يوجه السؤال لهم، ولهذا قال الله جل وعلا: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩].
فيكون جوابها: أن لا ذنب لي، فيكون في جوابها إهانة لذلك الذي قام بالوأد، وهذا هو المقصود الأسمى من الآية: أن نبين ما أعده الله جل وعلا من ذليل المكانة لأولئك القوم الذين تنكبوا هذا الطريق، وقاموا بهذا العمل؛ لأن الله جل وعلا وصفهم في سورة النحل بقوله: ﴿أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: ٥٩].
فقول ربنا جل وعلا: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩].
ظهر لنا الآن المقصد والمراد منه: من أنه توبيخ وإقامة سخرية واستهزاء وبيان لمهانة أولئك القوم الذين لم يحفلوا بنعمة الله جل وعلا، أن أنعم عليهم بالبنات، فعمدوا إلى قتلهن أحياء خوفاً من العار، وبهذا بيان ظاهر إلى أن الإنسان لابد أن يكون عاقلاً.
قد ينجم عن الفتاة عار إذا كبرت، فلا يختلف على هذا اثنان أنه من الممكن أن يقع، وإن كان قليلاً، لكن العاقل لا يدفع مصلحة حالة من أجل مفسدة لم تقع بعد، فلا يقدم درء مفسدة يتوهم وقوعها على مصلحة راجحة بينة، فنعمة الفتاة والبنت نعمة عظيمة من الله، وقد عني الإسلام بها أعظم عناية، قال صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى)، وقد تظافرت الأحاديث عن رسولنا ﷺ تدعوا الرجل وولي الأمر والأب إلى العناية بالبنات، وأنهن طريق إلى الجنة إلى غير ذلك مما هو مذكور مشهور في موقعه في السنة.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا هنا يخبر إجمالاً عما سيقع يوم القيامة، من أهوال، ومن نقم، تقع على أهل الكفر، وإذلال في ذلك الموقف من الله جل وعلا لهم، ومن ذلك: أن بعضهم لا يقيم الله له وزناً، ومن هنا يمكن جمع هذه الآية مع بعض ما ذكره الله جل وعلا من أخبار العصاة الذين لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، وأخبر جل وعلا أن لهم عذاباً أليما.
فهنا تبين الموقف من أن الله جل وعلا يقول: وهو أصدق القائلين: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩].
وقال بعض العلماء في الجواب عن هذا: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩]، أي: قتلت بلا ذنب، وهذا معلوم، لكن يبقى قول الله جل وعلا: ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٩] على أنه استفهام يجري على مجراه الحقيقي، ويكون جوابه منها في عرصات يوم القيامة؛ لأن السؤال متوجه إليها، فيكون في جوابها بيان وتوبيخ لذلك الذي قام بوأدها، نسأل الله جل وعلا العافية.
ويستنبط المسلم من هذا: أن الإنسان إذا اتبع أحداً فإنه يكون على بينة من أمره، وعلى رشد من قوله وفعله، فلم يكن أولئك الجاهليون صائبين ومتتبعين لطريق الحق، لاتباعهم لذلك الذي سن لهم وأد البنات قبل ذلك؛ لأن الله جل وعلا نعتهم بقوله: ﴿أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: ٥٩].
هذا ما يتسر إيراده، وتهيأ قوله، وأعان الله جلا وعلا على ذكره، حول قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨ - ٩].
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.