بيان اللطيفة القرآنية في قوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً)
الحمد لله رب العالمين، خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على المعاندين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة والأخوات! هذه حلقة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء: هي قول الله جل وعلا في الآية السابعة والتسعين من سورة الكهف: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧].
والمخبر عنه هنا هو ذلكم الردم الذي بناه ذو القرنين، وقبل بيان ما نحن عازمين على بيانه نبين أن الله جل وعلا جعل لهذا الملك ذي القرنين سلطاناً عظيماً، وحججاً باهرة، قال الله عنها: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ [الكهف: ٨٤].
طاف ذو القرنين الآفاق، وجال المشارق والمغارب حتى وصل كما قال الله جل وعلا: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ [الكهف: ٩٣].
طرحوا عليه قضيتهم: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ [الكهف: ٩٤]، وهما قبيلتان من نسل يافث بن نوح عليه السلام: ﴿مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف: ٩٤].
فأجابهم هذا الملك الصالح: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٥ - ٩٦].
فبنى ذو القرنين هذا الردم بين السدين ليكف شر يأجوج ومأجوج عن أولئك القوم الذين نعتهم الله جل وعلا بقوله: ﴿لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ [الكهف: ٩٣].
ثم قال الله جل وعلا: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧]، ما نريد أن نوضحه هاهنا: هو لماذا ذكرت (اسطاعوا) بالتخفيف، وذكرت استطاعوا بالتثقيل؟ والعرب تقول: إن زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى، ونجيب على ذلك كما أجاب أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم من قبل بما يلي: هذا الردم الذي بناه ذو القرنين ليصد ويكف شر يأجوج ومأجوج، حاولت تلك القبائل يأجوج ومأجوج أن تتجاوزه إلى ما تريد، ولا سبيل إلى تجاوزهم إلا بإحدى طريقتين: الطريقة الأولى: أن يظهروا على السد بمعنى: أن يصعدوا عليه ثم يصلون إلى مرادهم.
والطريقة الأخرى: أن يحدثوا فيه نقباً، فإذا أحدثوا فيه نقباً سهل عليهم بعد ذلك أن يخرجوا إلى غيرهم من خلال هذا النقب، هذا هو المتعين لهم.
ومعلوم: أنهم إذا اختاروا الارتقاء والعلو والظهور كما حكاه الله، فإنه بلا شك أسهل من قضية أنهم يسعون في نقب ذلك الردم، ومعلوم لكل ذي عقل: أن ارتقاء الشيء والعلو عليه أيسر بكثير من نقبه وخرقه، ولهذا قرن الله ذلك الظهور بالفعل: اسطاع مخففاً: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾ [الكهف: ٩٧]؛ وذلك حتى تدخر التاء لما هو أشد وهو النقب، فيصبح هناك توازن ما بين المعنيين المراد ذكرهما، وما بين الفعلين الذين سيق بهما ذلك المعنى، فقال ربنا: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧]، وبهذا يتضح لنا بجلاء عظمة هذا القرآن وأنه منزل من لدن حكيم خبير، لا رب غيره، ولا إله سواه، والمؤمن الذي يكثر من تلاوة القرآن، ويقف عند هذه المعالم البيانية فيه، لا بد أن تؤثر على لسانه، ويصبح أكثر سليقة وأقرب إلى الفصاحة والبيان والعلم بالبلاغة واللغة من غيره؛ لأن القرآن في أصله كما قال الله: ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨].
أما الحديث عن ذي القرنين: فقد اختلفت كلمة أهل العلم فيه: هل هو معدود في الأنبياء أم لا؟ وقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا)، وما أجمل تلك العبارة التي قالها بعض العلماء: فإذا كان النبي عليه الصلاة السلام يقول: لا أدري، فكيف لنا أن نجزم في ذي القرنين هل هو نبي أم لا، فنقول كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: لا ندري أكان ذو القرنين نبياً أم لا، لكنه كان ملكاً صالحاً قطعاً؛ لأن الله جل وعلا أخبر عن علو شأنه وعن قوله تبارك وتعالى: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: ٨٥ - ٨٦].
ووجه الدلالة على صلاحه: قول الله جل وعلا عنه: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الكهف: ٨٧ - ٨٨].
وبهذا يتبين لنا هذا التوافق العظيم في المعنى بين الفعلين، ويظهر لنا بذلك عظمة القرآن، وسمو أسلوبه، وجمال عبارته، وما تضمنه هذا القرآن من فصاحة وبيان، ولا ريب أنه أنزل كذلك على رسول البيان والبلاغة صلوات الله وسلامه عليه، قال الله جل وعلا: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، حول قوله تبارك وتعالى في الآية السابعة والتسعين من سورة الكهف: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧].
وأرجو الله أن يكون قد حل بهذا البيان الكثير من الإشكال حول هذه الآية المباركة في سورة الكهف، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الصفحة التالية
Icon