التناسق والتناسب العظيم في الآيات الأواخر من سورة الضحى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية)، والآيات التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك من هذا البرنامج هو ذلكم التناسق في سورة الضحى، قال الله جل وعلا: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٦ - ٨]، ثم قال: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: ٩ - ١١].
هذه الثلاث الآيات التي ختم الله جل وعلا بهن هذه السورة الكريمة تتناسب كل واحدة منهن مع ما قبلها، وبعض الناس يزدلف إليه بادي الرأي أن قول الله جل وعلا: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] إنما هو موافق لقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٦ - ٨]، فيظنها أنها مناسبة لقوله: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨].
بداية نوضح المعاني العامة للآيات، ثم نزدلف إلى ما نريد إماطة اللثام عنه من حفظ الآية بيانياً.
الله هنا يمتن على نبيه، وما أعظم منن الله على هذا النبي الكريم، الذي هو خير الخلق وأفضلهم، يقول له ربه: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: ٦]، واليتيم في اللغة: هو ذلكم المنقطع عما يلتصق به، وهو في العرف الشرعي: كل من فقد أباه قبل البلوغ، فإذا بلغ خرج عن كونه يتيماً.
ونبينا ﷺ ولدته أمه وقد توفي أبوه وهو حمل عليه الصلاة والسلام، فأخبر الله جل وعلا بأمر واقع ومشهود، ولذلك قريش كانت تسمي النبي عليه الصلاة والسلام: يتيم أبي طالب؛ لأنه نشأ في كنف عمه أبي طالب، قال شوقي: ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم هذا الأمر أعقبه الله جل وعلا بقوله: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [الضحى: ٦] ويناسبه ويتناسق معه قول الله: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩]، وانظر إلى تعليم الله لنبيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرف اليتم وذاق مرارته، فلهذا كان عليه الصلاة والسلام أحن على الأيتام من غيره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث رحمة في الأصل، وتلك حكمة بالغة، وإن كان في ظننا أن المقصود الأسمى من وفاة أبوي النبي ﷺ في صغره: ألا يكون لأحد على النبي ﷺ منة من الخلق.
أما قول الله جل وعلا: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧]، الضلالة في القرآن وردت بمعان ثلاثة: والمقصود بها هنا: التوقف، فقد كان النبي ﷺ متوقفاً في أمر قومه، ولم يكن يعلم عليه السلام مكان الهداية، قال تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾ [الشورى: ٥٢]، وفي نفس الوقت كان على يقين من أن قومه على الباطل، والدليل على ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام لم يتبعهم فيما هم فيه، ولم يسجد لصنم قط، وإنما كان يفر عن أنديتهم ومجتمعاتهم، ويأتي الجبل ويتحنث الليالي ذوات العدد، كل ذلك فراراً مما عليه قومه، مما يدل على أنه عليه السلام لم يكن مقتنعاً أبداً طرفة عين ولا أقل من ذلك بما عليه قومه من الضلالة، لكنه في نفس الوقت لم يكن يعلم مكان الهداية، فهداه الله، وهذا معنى قول الله جل وعلا: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧].
والذي يناسبها ما بعدها: قول الله جل وعلا: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠]، إذاً: كلمة السائل هنا تنصرف إلى المسترشد المستخبر عن أمر دينه في المقام الأول، ولا يمنع حسب قواعد التفسير: أن تنصرف كذلك إلى السائل المسكين، لكنها في المقام الأول تنصرف إلى المسترشد؛ ولهذا كان النبي ﷺ يجيب من يسأله في أمر الدين على أي حال كانت، ونحن نعلم أنه كان يقف في موقف في عرفة وفي غير عرفة في أيام الحج، ويسأله الناس ويجيب، وقد قال العلماء: ومن أجل هذا كان النبي ﷺ إذا قدم من سفر أو غزوة أو ما شابهها يبدأ بالمسجد حتى يعرف الناس بقدومه، فإذا عرفوا بقدومه قدموا إليه ليسألوه، ويأخذوا عنه دينهم صلوات الله وسلامه عليه، فهذا هو المعنى الحقيقي الأول لقول الله جل وعلا: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠].
ثم قال الله له: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨]، أي: وجدك فقيراً ذا حاجة ومسكنة فأغناك، وليس المقصود بالغنى هنا: البطر والكبر والتعالي والخوض في غمار هذه الدنيا؛ فإن النبي ﷺ كانت تمر عليه الأهلة -كما تنبئ عائشة - ولا يوقد في بيته نار، لكن لا يعني ذلك أن النبي ﷺ عاش الفقر التام طوال حياته، لكنه كان أحياناً يجد، وأحياناً لا يجد، فلا يتكلف مفقوداً، ولا يرد موجوداً، صلوات الله وسلامه عليه، يعيش حياة العبودية الحقة.
والذي يعنينا: قول الله جل وعلا: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: ١١]، فهي متناسبة مع قوله تبارك وتعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨]، والتحدث بنعمة الله يكون وفق سياقه الشرعي إذا قسنا به إظهار عظمة الله وفضله وإحسانه ولم يقصد به التعالي على الخلق، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣].
ولم يكن النبي ﷺ يتعالى على أحد غيره طرفة عين، بل كان النموذج الأكمل في التمام والكمال الخلقي الذي آتاه الله جل وعلا، بل وقد ذكرنا هنا ثلاث صفات أفاءها الله جل وعلا على نبيه، وأخبر عنها؛ لأنها موئل الحديث اليوم، وإلا فإن النبي ﷺ كما هو معلوم جمع خلال الخير كلها، وصفات الفضل بأكملها، قال شوقي رحمه الله: فإذا خطبت فللمنابر هزة تعروا الندي وللقلوب بكاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء صلوات الله وسلامه عليه.
يتحرر من هذا -أيها الأخ المبارك والأخت المباركة- أن ما ختم الله جل وعلا به سورة الضحى -تلك السورة المكية- متناسب متناسق مع ما سلف بيانه من صفات أخبر الله جل وعلا بها عن نبيه، فامتن الله جل وعلا عليه بأفضل منها، فآواه بعد أن كان يتيماً، وهداه بعد أن كان ضالاً متوقفاً، وأغناه بعد أن كان فقيراً عائلاً، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان العلي الكبير على قوله، حول سورة الضحى وما ختم الله جل وعلا بها من آيات تبين جليل القدر وعظيم المكانة لسيد الخلق وأشرفهم ﷺ عند ربه، راجين الله أن تكون فيما قلناه البركة والنفع للقائل والقارئ.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


الصفحة التالية
Icon