بيان درجة رفيع منزلة نبينا في الآية الكريمة
والطور في اللغة: هو الجبل الذي ينبت فيه الشجر، وأما الطور المقصود هنا فهو ذلكم الجبل الذي نبت فيه الشجر من أرض سيناء، فالطور جبل واحد في أرض سيناء، ومعلوم أن أي شيء موجود واقع ماكث له أربعة جوانب وله أربع جهات: شمال وجنوب وشرق وغرب، ومعلوم أن هذه الجهات الأربع لا تحتمل شيئاً من المدح ولا من الذم، أي: لا يتعلق بإحدى هذه الجهات الأربع مدح في ذاته من غير ما قرينة أخرى، فالجهات لا يفضل بعضها على بعض لكونها جهة شمال أو جهة جنوب أو جهة شرق أو جهة غرب.
وأما اليمين والشمال ففيهما جهة فضل، فاليمين أفضل من الشمال قطعاً، ومن دلائل ذلك أن الله جل وعلا أفردها في مقابل الجمع، وهو أسلوب قرآني في بيان الفضل، قال الله جل وعلا: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ [النحل: ٤٨].
فإذا علم ذلك فإن الله جل وعلا أخبر في القرآن أنه كلم موسى عليه الصلاة والسلام عند جانب الطور الأيمن، فقال جل وعلا: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: ٥٢]، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ﴾ [طه: ٨٠].
ولكن الرب تبارك وتعالى هنا يقول: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: ٤٤]، فعدل القرآن هنا عن ذكر اليمين إلى ذكر الغرب إظهاراً لكرامة النبي ﷺ عند ربه، فإن قال قائل: ما علاقة محمد ﷺ بهذا الخبر والله جل وعلا هنا يتكلم عن موسى؟! قلنا: لما ذكر الله جل وعلا الإثبات ذكر صفة اليمين مقترنة به فقال تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: ٥٢]، ثم إن الله جل وعلا حكى لنبيه هذا الأمر لبيان شرفه صلوات الله وسلامه عليه عند ربه، فحين ذكر الله النفي قال: ﴿وَمَا كُنتَ﴾ [القصص: ٤٤]، فأزال الله جل وعلا ذكر كلمة اليمين حتى لا ينفى الفضل عنه صلوات الله وسلامه عليه، فعدل القرآن عن ذكر اليمين إلى ذكر الغرب، فقال جل وعلا: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: ٤٤]؛ لأنه لو قيل في غير القرآن وما كنت بجانب الأيمن لكان فيه نفي اليمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا محال في حقه من جهة إكرام الله له، فعدل القرآن عن هذه اللفظة إلى لفظة لا يتعلق بها مدح ولا ذم، وهي جهة الغرب، فقال الله جل وعلا: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: ٤٤].
وهذه -تالله ووالله- من فرائد العلم التي تبين عظيم المنزلة وجليل المكانة لنبينا ﷺ عند ربه.