إن هذا لهو البلاء المبين
ثم نستطرد في الحديث -أيها الأخ المبارك- فنقول بعد أن ذكرنا خبر هذين النبيين الكريمين: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام كذلك بعملهما هذا يقدمان نموذجاً كاملاً بيناً يقيم الله به الحجة على عباده في كل أحد: أن يكون عبداً مستسلماً لأمر الله تبارك وتعالى وقضائه، وفي خبرهما إخبار بأن الله جل وعلا يبتلي، وأنه لا سبيل إلى رفع المقامات، وعلو الدرجات، إلا بعد الابتلاء والتمحيص، فلا تمكين إلا بعد اختبار وابتلاء، وكلما عظم الابتلاء وأوغل في الصدر اليقين ارتقى الإنسان إلى معالم وطرائق جديدة في معرفة الرب تبارك وتعالى ورحمته؛ ولهذا قال الله جل وعلا بعدها: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات: ١٠٤ - ١٠٥]، وهنا أقف معك لأقول لك: إن إبراهيم عليه السلام أمره الله جل وعلا أن يذبح ابنه إسماعيل ومراتب الوحي ثلاثة: إما أن يكلم الله العبد من غير واسطة بحجاب: كما كلم الله جل وعلا موسى، وهذا أرفع مقامات الوحي، وقد بينا في حلقات: سلفت أن آدم وموسى ومحمداً عليهم السلام جميعاً أوتوا هذه المنزلة.
الحالة الثانية: أن يبعث الله ملكاً، والغالب: أنه جبريل.
الحالة الثالثة: أن ينفث في روع ذلك النبي ما يريد الله جل وعلا أن يأمره به.
وكل هذه الأحوال الثلاثة انتفت في ذلك المطلب العظيم، فالمطلب غال: وهو ذبح الولد، لكن الطريق كانت ليست بتلك القوة، فلم يأمر الله جل وعلا إبراهيم بها من غير واسطة، ولم يبعث إليه ملكاً، ولم ينفث في روعه، وإنما كانت طريقة الوحي بالنسبة للطرائق الأخرى ضعيفة جداً: فقد كانت مجرد رؤيا، فكان الشيطان يأتي إلى إبراهيم ويقول له: يا إبراهيم! اتق الله، تذبح ولدك من أجل رؤيا رأيتها، فالمطلب عظيم، لكن الوسيلة أو الطريقة كانت ضعيفة، ومع ذلك قبل إبراهيم بالرؤيا؛ لأنه يعلم أن رؤيا الأنبياء حق، وهذا قمة الابتلاء، فازدلف الأب إلى ابنه قائلاً: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: ١٠٢]، فأجاب إسماعيل البار الصالح أباه بقوله: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢].
وقد قال الله في موضع آخر: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: ١٠٦ - ١١١].
وإلى يومنا هذا يتقرب إلى الله جل وعلا بذبح الأضاحي إحياء لتلك الشعيرة العظمى التي ابتدأها النبيان الكريمان إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ قوله.
والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.