فضل عشر ذي الحجة والعمل فيها
مداخلة: ما فضل هذه الأيام -العشر- بالنسبة لهذه الأشهر المباركة العظيمة؟ الشيخ: أفضل الأيام عشر ذي الحجة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) هنا ينيخ المرء مطاياه، فثمة فوائد لا تحصى: أولها: أن الصحابة عندما قالوا: (ولا الجهاد في سبيل الله) يدل ظاهراً على أنه استقر في أذهانهم فضيلة الجهاد في سبيل الله، وإلا لم يوردوا هذا الإشكال، حتى أن النبي ﷺ لما ذكر تلك العشر الأيام قال: (ولا الجهاد في سبيل الله) ثم استدرك صلوات الله وسلام عليه فقال: (إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) هذا أمر.
الأمر الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن) نلحظ أن الله جل وعلا لم يحدد عبادة معروفة في هذه الأيام حتى يكون الفضل ليس في العبادة، إنما الفضل في اليوم، فتصبح هذه الأيام وعاء لكل عمل صالح.
وعظمة هذه الأيام تتأكد إذا أخذنا بقول جماهير أهل السير والتاريخ والتفسير أنها هي الأيام التي زادها الله جل وعلا لموسى، فإن الله قال: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، فيصبح الميقات الأول لموسى شهر ذي القعدة، ثم زاده الله جل وعلا العشر من ذي الحجة، وعلى هذا فإن الله جل وعلا كلم موسى يوم النحر عند جبل الطور.
لكن القرآن عبر عن تلك العشر بالليال، فقال: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ [الأعراف: ١٤٢] أي: بعشر ليال، هنا يأتي ملحظ ينبغي أن ينتبه إليه الناس، وهو أن المنافع قسمان: منافع دينية، ومنافع دنيوية، فالدنيوية يعبر عنها بالأيام؛ لأنها ترتبط بمرور الشمس، وأما المناسك والمنافع الدينية البحتة فإنه يعبر عنها بالليالي لأنها ترتبط بالأهلة، ومن ذلك دخول رمضان، وخروج رمضان، دخول ليلة العيد وما أشبه ذلك، فكله مرتبط بالقمر، وهذه قاعدة مطردة أن المنافع الدينية مرتبطة بالليالي، والمنافع الدنيوية مرتبطة بالأيام.
والمنافع الدنيوية مثل الزراعة، فالذين يحرثون ويبذرون ليس لهم علاقة بالقمر، بل بالشهور الشمسية الثابتة، لأن القمر يختلف.
الشيخ: هنا أيام العمل الصالح كمطايا للعمل، لكن دخول هذه الأيام ومعرفة أولها وآخرها مرتبط بالقمر، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩]، فهي مواقيت للناس في أمورهم التعبدية، وإذا كانوا يربطون بها بعض المنافع الدنيوية فهذا لهم، لكن الأصل أن الليل الشرعي أشرف من النهار، ولهذا أسرى الله بنبيه وعرج به ليلاً، ونجى لوطاً وبنتيه بالليل، ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾ [القمر: ٣٤] ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الشعراء: ٥٢]، وفي الخبر الصحيح: (صلاة الرجل في جوف الليل الآخر) (صلاة الليل مثنى مثنى) تنزل الإله يكون بالليل، أقسم الله بالليل والنهار، فقدم الليل وقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل: ١ - ٢]، فالمقصود أن الليل مطية عظيمة لصالح العبادات.
هنا تأتي مسألة أثارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه لما سئل عن الفرق ما بين هذه الأيام العشر التي نحن بصدد الحديث عنها، وبين العشر الأواخر من رمضان.
قال رحمه الله: إن أفضل أيام العشر من ذي الحجة نهارها، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل، باعتبار ليلة القدر، وأعتقد أن هذا القول على إجماله صحيح، لكن يحتاج إلى نوع من التصويب في معنى أن ليست جميع ليالي شهر رمضان أفضل من عشر ذي الحجة، إلا الليلة التي فيها ليلة القدر، ومعلوم أن ليلة القدر ليلة واحدة، فمثلاً لو كانت في عام -على القول بالتنقل- ليلة إحدى وعشرين فلا يمكن أن نقول بعد ذلك إن بقية ليالي الشهر أفضل من عشر ذي الحجة، وقد جاء النص الصريح: (ما من أيام العمل الصالح فيهن) وبالاتفاق أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام) يدخل فيه اليوم والليلة.