تفسير قوله تعالى: (إني ظننت أني ملاق حسابيه)
قال تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]، والظن هنا بمعنى: اليقين، والظن له معان عدة في القرآن فلننتبه، وهذه يسميها العلماء باللفظ المشترك في القرآن، والمقصود أنه قد يكون هناك لفظ واحد له عدة معان مختلفة، كلفظ: (أمة) جاء بأكثر من معنى في القرآن الكريم، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠]، أي: إماماً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ [البقرة: ١٢٤].
وفي سورة يوسف يقول الله تعالى في حق أحد صاحبي يوسف الذي خرج من السجن: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥]، أي: تذكر بعد فترة زمنية، فأمة هنا بمعنى: فترة زمنية، وليس بمعنى الإمام.
ويقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء: ٩٢]، وفي سورة القصص: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً﴾ [القصص: ٢٣]، يعني: جماعة من الرجال، فاللفظ واحد لكن معناه متعدد.
وكذلك كلفظ (النكاح)، وعدم فهم مدلول اللفظ يوقع صاحبه في مشكلة في الفهم، وهذا ما صنعه منكر الشفاعة يوم أن خرج علينا بدين جديد، إذ يقول: إن الإسلام لا يعرف حد الرجم؛ لأن القرآن ما جاء بالرجم وإنما جاء بالجلد، ثم استدل بآية في سورة النساء بشأن الأمة -أي: المملوكة-، فاستدل بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النساء: ٢٥]، فقال الجهبذ: والرجم لا ينصف؛ فإذاً لم يجئ الإسلام بالرجم فهذا لأنه فهم فهماً خطأً لمعنى كلمة: (أحصن)، إذ فسرها بمعنى تزوجن، ولهذا كان فهم المدلول اللفظي للكلمة مهماً جداً، فمثلاً: كلمة (النكاح) تأتي في القرآن بمعان عدة، يقول ربنا سبحانه: ﴿وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢]، يعني: نكاح زوجة الأب، لكن متى تحرم؟ هل بالدخول أم بالعقد؟ بمجرد أن يعقد الأب على امرأة دون أن يدخل بها تصبح محرمة على ولده حرمة أبدية؛ فإن تزوجها كان ﴿فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢].
يقول ابن كثير: فنكاح زوجة الأب أشد حرمة عند الله من الزنا؛ لأنه قال في حق الزنا: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٢]، وهنا قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢]، فالنكاح هنا بمعنى العقد.
والنكاح في سورة البقرة جاء بمعنى الدخول، قال تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ [البقرة: ٢٣٠]، أي: الطلقة الثالثة، ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، ما المقصود بالنكاح هنا؟ البناء، فلا بد أن (يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته)، يعني: لا بد من الجماع والعقد لا يكفي.
وجاء لفظ النكاح في سورة النساء بمعنى بلوغ الرشد: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦]، أي: بلغوا الرشد.
إذاً: معرفة اللفظ المشترك المتعدد المعاني في القرآن الكريم مهم جداً، وهنا يقول ربنا: ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]، فالظن هنا بمعنى اليقين.