تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه)
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [الحاقة: ٢٥]، أي: من وراء ظهره، كتاب فيه تبرج، وعدم صلاة، وأكل ربا، وانتهاك للحرمات، وطعن في الشريعة، وإلحاد في أسماء الله وصفاته، واستهزاء بالموحدين، وطعن في السنة، وكله سيئات ومعاص، فوجهه أسود، وكتابه أسود، وجهنم سوداء، ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، ويقول الله عز وجل: ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ [الحاقة: ٢٥ - ٢٧]، فيتمنى أن يموت ولا يبعث، كلا: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [النساء: ٥٦]، لماذا؟ ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: ٥٦].
﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: ٤٠].
﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧].
﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا﴾ [طه: ٧٤]، حياة يتمنى فيها الموت.
ثم يقول الله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٨]، فيا صاحب المال! مالك عند ربك لا وزن له إن لم تتق الله فيه، ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٩]، فالكل سواء: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ٩٤]، فضاعت الألقاب، وانحسرت الألفاظ، وضاعت المنازل والرتب، وكلها سواء بين يدي الله عز وجل.
ثم ينادي الله: ﴿خُذُوهُ﴾ [الحاقة: ٣٠]، يقول الفضيل بن عياض: حينما تسمع الملائكة: ﴿خُذُوهُ﴾ [الحاقة: ٣٠]، يبتدره سبعون ألف ملك، فيجتمعون حوله، وكل واحد يريد أن يبدأ بوضع الأغلال في عنقه وبسحبه على وجهه إلى نار جهنم، ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ [الحاقة: ٣٠]، أي: ضعوا الأغلال في عنقه، ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: ٣٢]، تدخل من استه وتخرج من فتحة فمه، ثم قيدوه، ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩]، يا من كانت الدنيا تقوم لك أنت الآن تحت الأقدام تسحب إلى نار جهنم، فهل هناك عاقل يعي؟ وهل هناك عاقل يبصر؟ ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة: ٣٣ - ٣٤]، أي: لم يؤد حق الله، ولم يؤد حق العباد، وحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، فما أدى ذلك الحق، وما أدى حق العباد من صلة رحم، وما تعاون على البر والتقوى، وأنفق على المساكين، ﴿وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ﴾ [الحاقة: ٣٤ - ٣٥]، أي: لا وساطة، ولا قرابة، ولا شفاعة، ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ [غافر: ١٨]، فلا قريب ولا واسطة تتوسط له عند الله، فقد انتهت الوساطات، والمحسوبيات، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١]، (يا فاطمة اعملي فإني لن أغني عنك من الله شيئاً)، عملك هو مرتبتك ومنزلتك عند الله عز وجل.
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: ٣٦]، أتدري ما هو الغسلين؟ يقول المفسرون: لأهل النار وجبات في النار، منها: الغسلين، وهو القيح والدم والصديد الخارج عن أهل النار.
وفي سورة الغاشية: الضريع، وهو الشوك الذي يدخل في الحلق فلا يدخل إلى الجوف ولا يخرج.
وفي موضع آخر: الزقوم: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ﴾ [الدخان: ٤٣ - ٤٤]، قال الله في حقها: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٦٤]، ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ [الصافات: ٦٦].
ويستغيث فيغاث، لكن بم يغاث؟ ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: ٢٩].
وقال: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ [إبراهيم: ١٦ - ١٧]، فمن منا يطيق هذا العذاب؟ حتى الثياب من نار: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ [الحج: ١٩]، فيلبسونها، وحتى الأسِرّة من نار وينامون عليها.
اللهم إنا نسألك الجنة، ونع