تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل)
ذكر ربنا سبحانه تلك الآيات التي نسخت فريضة قيام الليل، وبين نزول أول سورة المزمل وآخرها حول كامل، يوم أن قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: ٢] فقام ﷺ هو وأصحابه سنة كاملة، حتى تورمت أقدامهم من طول القيام بين يدي الله سبحانه، وهذا فيه تربية على الامتثال لأمر الله سبحانه، ثم أنزل الله في آخرها نسخاً للوجوب، وأصبح قيام الليل على الاستحباب والندب، ودليل الجمهور أن قيام الليل ليس فرضاً الحديث الذي رواه البخاري: (أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي ﷺ وسأله عما فرضه الله عليه من الصلاة، فقال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع -أي: إلا أن تزيد من جنسها ما شئت بالضوابط الشرعية- ثم سأله عن الصيام فقال له: صيام رمضان، قال هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، فانطلق الرجل وهو يقول: لا أزيد عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي رواية: (أفلح وأبيه إن صدق) والمعنى: أن تلك هي الفروض، وما زاد عليها من جنسها فهو من باب النوافل.
والنسخ لغة: الإزالة، واصطلاحاً: هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متأخر.
ولا نسخ في القصص، ولا نسخ في العقائد، ولا نسخ في الأخلاق، وإنما يكون النسخ لبعض الأحكام الشرعية، يقول ربنا سبحانه: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: ١٠٦]، فالنسخ بمعنى إزالة حكم شرعي كان في أول الأمر، ثم زال بخطاب شرعي متأخر عنه في النزول.
قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٢٠] أي: أقرب من ثلثي الليل.
﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [المزمل: ٢٠] الذي يقدر الأوقات ويعلم حقيقتها هو الله سبحانه.
﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠] أي: لن تقدروا على ذلك؛ للمشقة التي اعترتهم، فمنهم المريض، ومنهم الذي يضرب في الأرض طلباً لرزقه وتجارته، والآية فيها صدق نبوة خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، إذا لم يكن الجهاد فرضاً في مكة، ومع ذلك قال الله: ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ﴾ [المزمل: ٢٠]، وهذا إخبار بمستقبل كما قال العلماء.
ثم قال الله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠] أي: لن تقدروا على هذا العمل المتصل من قيام الليل؛ ولذلك جاء من حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني ينبغي أن نتمسك به جميعاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (خلتان -أي: خصلتان- لا يقدر عليهما أحد إلا كان من أهل الجنة يقول في دبر كل صلاة: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر عشراً ثلاثين مرة في خمسة فروض بخمسين ومائة مرة)، هي مائة وخمسون في اللسان، وألف وخمسمائة في الميزان.
وعند النوم تقول: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، فتلك مائة باللسان وألف في الميزان.
إذاً: تسبح بعد كل الصلوات ألفاً وخمسمائة، وتسبح عند النوم ألفاً، والمجموع ألفان وخمسمائة، فهل يعمل أحد في اليوم والليلة ألفان وخمسمائة سيئة؟ لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (خلتان لا يقدر عليهما أحد إلا كان من أهل الجنة) لأن الشيطان يأتي العبد في صلاته فلا يزال يذكره بأعماله حتى يسلم؛ من أجل أن يحرمه هذا الأجر، وعند النوم لا يزال خلفه حتى يرقد.
فيا عبد الله واظب عليها بعد كل صلاة وقبل نومك.
والحديث حسن، حسنه الألباني وصححه كثير من أهل العلم.
ثم قال الله سبحانه: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ﴾ [المزمل: ٢٠] أي: طلباً للرزق، ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المزمل: ٢٠] قال المفسرون: جاء التعبير بالإقراض هنا؛ لأن الذي يعطي الفقير يقرض الله، حتى لا يظن الغني أن له منة على الفقير، إنما للفقير منة على الغني، الفقير هو الذي يمن على الغني بأنه قربه إلى ربه سبحانه، فأنتم عند عطائكم إنما تقرضون الله، وعند الإنفاق في سبيل الله، وعند إخراج الزكاة في مصارفها الثمانية إنما تقرضون الله عز وجل.
وشروط الإقراض والإنفاق لله ثلاثة: أن يكون من حلال.
وأن يكون خالصاً لله عز وجل.
وألا يتبع ما أنفق مناً ولا أذى.
ثم قال ربنا سب


الصفحة التالية
Icon