تفسير قوله تعالى: (كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق)
قال تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ [القيامة: ٢٦] الترقوة هي مكان الحشرجة، مكان نزع الروح من الجسد بين العاتقين والرقبة، والروح تسكن في سائر الجسد، كما قال شيخ الإسلام: وحال الروح مع الجسد كحال الماء مع الإسفنجة، فهي في كل أنحاء الجسد، ينزعها ملك الموت وأعوانه من الساقين إلى الفخذين إلى البطن إلى الصدر حتى تصل إلى التراقي، إلى الحلقوم، عند ذلك الروح تأبى أن تفارق الجسد، أما روح المؤمن فينزعونها في رفق وسهولة، كما تنزل القطرة من في السقاء، أما روح الكافر العاصي المنافق فيضربون الدبر والوجه حتى تخرج؛ لأنها لا تريد الخروج.
والأهل يستعدون بالكفن للجسم، والملائكة يستعدون بالكفن للروح، فتخرج الروح وعند ذلك تتعالى الأصوات: ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ [القيامة: ٢٧]، أي: هل من أحد يرقيك؟ هل من طبيب معالج؟ استدعوا الطب والعلاج، لكن هيهات هيهات.
وفي تفسير آخر أن ملك الموت يسأل الأعوان: من سيرقى بها؟ يعني: من سيحملها إلى السماء؟ قال تعالى: ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ [القيامة: ٢٨] أي: الفراق من الدنيا والإقبال على الآخرة، ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ [القيامة: ٢٩] الساقان اللذان كانا يحملان العبد في الدنيا فيسير عليهما متبختراً متكبراً، تلتوي ساق على ساق في آخر أيامه في الدنيا.
قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾ [القيامة: ٣٠ - ٣١] هذه الآية وما بعدها نزلت في أبي جهل ذلك عندما قابله النبي ﷺ عند المسجد الحرام فجذبه من قميصه وقال له: (أما آن لك أن تسلم؟ فقال أبو جهل في كبر وعناد للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا لا يشغلني أنت ولا ربك؛ لأنني أعظم القوم نادياً -أي: عائلة- فأنزل الله في حقه قرآناً: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ [القيامة: ٣٤]) فتكذيبه في أربع والجزاء في أربع: الأولى: ﴿فَلا صَدَّقَ﴾ [القيامة: ٣١] بالآخرة ولا بالقرآن.
الثانية: ﴿وَلا صَلَّى﴾ [القيامة: ٣١] لله عز وجل.
الثالثة: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [القيامة: ٣٢].
الرابعة: ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ [القيامة: ٣٣].
فهذه أربع وسائل للإعراض، فجاءت أربع وسائل للجزاء: ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ [القيامة: ٣٤ - ٣٥] فجاءت الآيات تبين أن الله عز وجل أعد له العذاب.