إلى النبي- صلّى الله عليه وسلم- أنه كان قبل الجزية، ولو كان قبلها وصح ذلك ما كان فيه دليل على أن الحكم لا يجوز بينهم بعدها بل هو الآن أوكد من أجل أنهم كانوا قبل ذلك أهل موادعة بمنزلة أمم الشرك الذين تكون بيننا وبينهم الهدنة وهم مع هذا لا تجري أحكامنا عليهم فلما صاروا إلى أداء الجزية ورضينا منهم بأن يكونوا شركاءنا في الدار ومناصفينا في الحقوق ورضوا منا بالإقامة معنا عليها وهم يعلمون أنّ في ديننا إقامة الحدود وإنفاذ أحكام كتابنا وسنتنا فلزمهم من ذلك ما لزمنا ولم يسع الإمام أن يردهم إلى أحكامهم لأن فيه معونة على جورهم وأخذهم الرّشاء (١) في الحكم فإن الله عز وجل وصفهم بذلك فقال عز وجل: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ (٢) وقال عز وجل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهي الرشوة في التفسير.

(١) الرشاء: أصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء، والرشوة بكسر الراء وضمها الوصول إلى الحاجة بالمصانعة، فالرّاشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ. والرائش الذى يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا (النهاية ٢/ ٢٢٦).
(٢) سورة المائدة آية ٥٠. قلت: ولا حاجة بنا إلى القول بالنسخ- الذي هو ابطال حكم الآية المتقدمة في النزول- ما دام الجمع بين الآيتين ممكنا، وذلك أن في الآية الأولى إثبات الخيار للحاكم في الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم وترك الحكم بينهم. وفي الآية الثانية: إلزام الحاكم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله دون أي حكم آخر مستمد من غير كتاب الله وذلك الإلزام والإيجاب يكلّف به الحاكم بعد اختياره الحكم بينهم لا الإعراض عنهم. وإلى هذا ذهب الطبري في إيضاحه للآيتين ويؤيد إحكام الآيتين الأثر الصحيح عن عائشة- رضى الله عنها- الدال على أن آيات الأحكام في المائدة لم تنسخ.
قال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال:
قرئ على عبد الله بن وهب: أخبرنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة- رضي الله عنها- فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، قالت أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه- ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. انظر: المستدرك مع التلخيص ج ٢، كتاب التفسير المائدة ص ٣١١.
قلت: وإذا كان ذلك كذلك لزم أن يحمل قول مجاهد وعكرمة الدال على النسخ لزم حمله على التخصيص إذ أن مدلول النسخ عند السلف أوسع منه عند المتأخرين، فالتخصيص والاستثناء وتبيين المجمل وتقييد المطلق وإبطال الحكم المتقدم وإزالته بدليل متأخر كل ذلك عندهم داخل في النسخ.


الصفحة التالية
Icon