مقدمة

الحمد لله، الملك السلام، المهيمن العلام، شارع الأحكام، ذي الجلال والإكرام، الذي أنزل القرآن بحسب المصالح منجماً، وجعله بالتحميد مفتتحاً وبالاستعاذة مختتماً، وأوحاه على قسمين: متشابهاً ومحكماً، فسبحان من استأثر بالأوّلية والقدم ووسم كل شيء سواء بالحدوث عن العدم ومنّ علينا بنبيّنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنعم علينا بكتابه المفرّق بين الحلال والحرام، والصلاة والسلام على خير من أوحي إليه حبيب الله أبي القاسم محمد النبي الأميّ المثبّت بالعصمة المؤيّد بالحكمة، وعلى جميع الأنبياء والملائكة البررة الكرام، عدد ساعات الليالي والأيام، وعلى آله الأطهار وخلفائه وجميع المهاجرين والأنصار وعلى بقية الصحابة الأخيار، صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين آناء الليل وأطراف النهار.
أما بعد: فيقول فقير رحمة ربه القريب محمد الشربيني الخطيب: إن الله جلّ ذكره أرسل رسوله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين بشيراً للمؤمنين ونذيراً للمخالفين، أكمل به تبيان النبوّة وختم به ديوان الرسالة، وأنزل عليه بفضله كتاباً ساطعاً تبيانه قاطعاً برهانه، ناطقاً ببينات وحجج، قرآناً عربياً غير ذي عوج، مفتاحاً للمنافع الدينية والدنيوية، مصداقاً لما بين يديه من الكتب السماوية حسناته ظاهرة باهرة في وجه كل زمان، دائراً من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، أعجز الخليقة عن معارضته وعن الإتيان بسورة من مثله في مقابلته، ثم سهّل علة الخلق مع إعجازه تلاوته، ويسّر على الألسن قراءته، أمر فيه وزجر وبشّر وأنذر فهو كلام معجز في رقائق منطوقة ودقائق مفهومة، لا نهاية لأسرار علومه.
وقد ألّف أئمة السلف كتباً
سورة يونس
عليه السلام مكية
إلا فإن كنت في شك الآيتين أو الثلاث أو ﴿ومنهم من يؤمن به﴾ الآية مائة وتسع أو عشر آيات وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفاً، وهي أوّل المئين، إن جعلنا براءة مع الأنفال من الطوال، وإلا فبراءة أولاهن.
﴿بسم الله﴾ جامع العباد بعد تفريقهم بما له من العظمة والامتنان. ﴿الرحمن﴾ الذي عمهم بالإيجاد وخص منهم من شاء بالإيمان. ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح للجنان.
﴿الر﴾ قال ابن عباس والضحاك و ﴿الر﴾ أنا الله أرى، ﴿والمر﴾ أنا الله أعلم وأرى. وقيل: أنا الرب لا رب غيري. وقال سعيد بن جبير: الر وحم ونون حروف اسم الرحمن. وقد سبق الكلام على حروف الهجاء أوّل البقرة، واتفقوا على أنّ ﴿الر﴾ وحده ليس آية، واتفقوا على أنّ قوله طه وحده آية، والفرق أنّ قوله تعالى: الر لا يشاكل كل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله تعالى طه؛ فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بفتح الراء والألف بعدها، وورش بين اللفظين، والباقون بالإمالة المحضة. ﴿تلك﴾ أي: الآيات العظيمة جدًّا التي اشتملت عليها هذه السورة أو السورة، التي تقدّمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أنَّ القرآن كلام الله تعالى قد أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف. ﴿آيات الكتاب﴾ أي: الذكر الجامع لكل خير وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كلّ ما في التوراة والإنجيل من ذلك فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً؛ لأنه لم يكن يعرف شيئاً من الكتابين ولا جالس أحداً يعلمه. ﴿الحكيم﴾
سورة الشعراء
مكية إلا قوله والشعراء إلى آخرها فمدنية وهي مائتان وست وعشرون آية وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وإثنان وأربعون حرفاً
روى البغويّ عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ قال أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى.
عليه السلام ﴿بسم الله﴾ الذي دلّ علوّ كلامه على عظمة شأنه وعز مرامه ﴿الرحمن﴾ الذي لا يعجل على من عصاه ﴿الرحيم﴾ الذي يحي قلوب أهل ودّه بالتوفيق لما يرضاه.
﴿طسم﴾ قال ابن عباس: عجزت العلماء عن علم تفسيرها، وفي رواية عنه: أنه قسم وهو من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن وقال مجاهد اسم السورة، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم بطوله وسناه وملكه، ولهذا الاختلاف قال الجلال المحلي: الله أعلم بمراده بذلك، وقد قدمنا الكلام على أوائل السور في أول سورة البقرة وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بإمالة الطاء، والباقون بالفتح، وأظهر حمزة النون من سين عن الميم، وأدغمها الباقون وهي في مصحف عبد الله بن مسعود ط س م مقطوعة من بعضها.
﴿تلك﴾ أي: هذه الآيات العالية المرام الحائزة أعلى مراتب التمام المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات ألسنتكم ﴿آيات الكتاب﴾ أي: القرآن الجامع لكل فرقان ﴿المبين﴾ أي: الظاهر إعجازه المظهر الحق من الباطل ولما كان عنده ﷺ من مزيد الشفقة وعظيم الرحمة على قومه قال تعالى تسلية له.
﴿لعلك باخع﴾ أي: هالك ﴿نفسك﴾ غماً وأسفاً من أجل
سورة الأحقاف
مكية
إلا قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن كان من عند الله﴾ الآية وإلا ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ الآية وإلا ﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾ الثلاث آيات، وهي خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى. ﴿الرحمن﴾ الذي سبقت رحمته غضبه ﴿الرحيم﴾ الذي خص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار، وتقدّم الكلام على قوله تعالى:
﴿حم﴾ مراراً، وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بإمالتها بين بين وفتحها الباقون. وقيل: المراد بحم حكمة محمد ﷺ التي هي النهاية في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى:
﴿تنزيل الكتاب﴾ أي الجامع لجميع الخيرات بالتدريج على حسب المصالح ﴿من الله﴾ أي الجبار المتكبر المختص بصفات الكمال ﴿العزيز﴾ في ملكه ﴿الحكيم﴾ في صنعه لأنه لم يفعل شيئاً إلا في أوفق محاله وأنه الخالق للخير والشرّ وأنه يعز أولياءه ويذل أعداءه.
﴿ما خلقنا﴾ أي؛ على مالنا من العظمة الموجبة للتفرّد بالكبرياء ﴿السموات والأرض﴾ على ما فيهما من الآيات ﴿وما بينهما إلا﴾ خلقاً ملتبساً ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرّف المطلق ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا ﴿وأجل﴾ أي وبتقدير أجل ﴿مسمى﴾ ينتهي إليه وهو يوم القيامة.
﴿والذين كفروا عما أنذروا﴾ أي: خوفوا به من القرآن من هول ذلك اليوم الذي لا بدّ لكل خلق من انتهائه إليه ﴿معرضون﴾ أي لا يؤمنون به ولا يهتمون للاستعداد له.
ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء المعرّضين أنفسهم لغاية الخطوب منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً


الصفحة التالية
Icon