«يقول الله عزّ وجلّ: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه». وفي رواية: جاء أعرابيّ إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله». وقرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ ﴿واشكروا لي﴾ نعمتي بالطاعة ﴿ولا تكفرون﴾ بجحد النعم وعصيان الأمر، فإن من أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره.
﴿يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر﴾ على الطاعة والبلاء وعلى المعاصي وحظوظ النفس ﴿والصلوة﴾ خصها بالذكر؛ لأنها أم العبادات لاشتمالها على فعل القلب وغيره ومناجاة رب العالمين ﴿إن الله مع الصابرين﴾ بالنصر وإجابة الدعوة.
هم ﴿أموات بل﴾ هم ﴿أحياء ولكن لا تشعرون﴾ أي: لا تعلمون كيف حالهم في حياتهم.
قال البيضاويّ: وهو تنبيه على أنّ حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي اه.
وهذا ما عليه أكثر المفسرين، قال ابن عاد: ويحتمل أنّ حياتهم بالجسد وإن لم تشاهد وأيد بأن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات بالاتفاق، فلو لم تكن حياة الشهيد بالجسد لاستوى هو وغيره ولم تكن له مزية اه.
وقد يرد بأنّ الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم من المؤمنين منعمون بما دون ذلك. وفي الحديث: «أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش» وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح أي: الاستراحة أي: التلذذ والتنعم والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدّواً وعشياً، فيصل إليهم الوجع والغم. وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله ومزيد السرور والكرامة والأرواح جواهر قائمة بأنفسها تبقى بعد الموت دراكة كما عليه جمهور الصحابة والتابعين ونطقت به الآيات والسنن.
﴿ولنبلونكم﴾ أي: ولنختبرنكم يا أمّة محمد ﷺ واللام لجواب القسم تقديره والله لنبلونكم والابتلاء إظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به ﴿بشيء﴾ أي: بقليل ﴿من الخوف﴾ أي: خوف العدوّ ﴿والجوع﴾ أي: القحط وإنما قلله بالنسبة لما وقاهم عنه فيخفف عنهم ويريهم أنّ رحمته لا تفارقهم أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة وإنما أخبرهم قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم ﴿ونقص من الأموال﴾ بالخسران والهلاك ﴿والأنفس﴾ بالقتل والموت وقيل: بالمرض والشيب ﴿والثمرات﴾ بالجوائح.
وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخوف خوف الله، والجوع صوم رمضان، ومن الثمرات موت الأولاد. وعن أبي سنان قال: دفنت ولدي سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني، فقال: ألا أبشرك؟.
حدّثني الضحاك بن عروب عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد». وقوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين﴾ أي: على
وإنما سمي ذلك مكراً لوجوه:
الأوّل أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاءً لرؤية يوسف عليه السلام، والنظر إلى وجهه؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ.
الثاني: أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكراً.
الثالث: أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر ﴿أرسلت إليهنّ﴾ تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ. قال وهب: اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس ﴿وأعتدت﴾، أي: أعددت ﴿لهنَّ متكأً﴾، أي: طعاماً يقطع بالسكين، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأً؛ لأنه يتكأ عنده. قال جميل:

*فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئاً. وقال ﷺ «لا آكل متكئاً» وقيل: إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه السلام ﴿وآتت﴾، أي: أعطت ﴿كل واحدة منهنَّ سكيناً﴾، أي: لتأكل بها، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين ﴿وقالت﴾ زليخا ليوسف عليه السلام ﴿اخرج عليهنّ﴾، أي: النسوة، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل، والباقون بالضم، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم ﴿فلما رأينه﴾، أي: النسوة ﴿أكبرنه﴾، أي: أعظمنه ودهشن عند رؤيته، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة: كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وروي أنه ﷺ قال: «رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر» ذكره البغويّ بغير سند، وقال ابن إسحاق: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال: إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة، وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة، وقيل: أكبرنه يعني حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
*خف الله واستر ذا الجمال ببرقع فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل: أمنين قال الكميت:
*ولما رأته الخيل من رأس شاهق صهلن وأمنين المنيّ المدفقا
وقال الرازي: إنما أكبرنه؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ
وفي هذا من الشهادة القوية على استحاكم كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى: ﴿ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ (الأنعام: ٢٨)
ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه.
﴿فلما جاءهم﴾ أي: أهل مكة ﴿الحق﴾ أي: الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو ﴿من عندنا﴾ على مالنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق ﴿قالوا﴾ أي: أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفراً به ﴿لولا﴾ أي: هلا ولم لا ﴿أوتي﴾ أي: هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات ﴿مثل ما أوتي موسى﴾ من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى: ﴿أو لم يكفروا﴾ أي: العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى ﴿بما أوتي موسى﴾ عليه السلام من قبل أي: من قبل مجئ الحق على لسان محمد ﷺ ولما كان كأنه قد قيل ما كان كفرهم به قيل ﴿قالوا﴾ أي: فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل ﴿ساحران﴾ أي: موسى وأخوه عليهما السلام ﴿تظاهرا﴾ أي: أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين على قراءة الكوفيين بكسر السين وسكون الحاء، وقرأ الباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
تنبيه: يجوز أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، قال البقاعي: وهو أقرب وذلك لأنه روي أن قريشاً جاءت إلى اليهود فسألوهم عن محمد ﷺ فأخبروهم أنّ نعته في كتابهم فقالوا هذه المقالة فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال: ما كان كفرهم بهما؟ فقيل قالوا أي: العرب: الرجلان ساحران أو الكتابان ساحران ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أنّ هذا القول زيف لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر لكان سحر فرعون أعجز إعجازاً لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارضة ما أظهر موسى عليه السلام من آياته كالعصا، وأمّا محمد ﷺ فقد دعا أهل الأرض من الجنّ والأنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا عن آخرهم، ولما تضمن قولهم ذلك الكفر صرّحوا به ﴿وقالوا﴾ أي: كفار قريش ﴿إنا بكل﴾ أي: من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما وهما ما أتيا به من عند الله ﴿كافرون﴾ جراءة على الله تعالى وتكبراً على الحق ثم قال الله تعالى:
﴿قل﴾ أي: لهم إلزاماً إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه السلام ﴿فأتوا بكتاب من عند الله﴾ أي: الملك العلي الأعلى ﴿هو﴾ أي: الذي تأتون به ﴿أهدى منهما﴾ أي: من الكتابين وقوله ﴿أتبعه﴾ أي: وأتركهما جواب الأمر وهو فأتوا ﴿إن كنتم﴾ أي: أيها الكفار ﴿صادقين﴾ أي: في أنا ساحران فأتوا بما ألزمتكم به، قال البيضاوي: وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.
﴿فإن لم يستجيبوا لك﴾ أي: دعاءك إلى الكتاب الأهدى فحذف المفعول
نار، ويجوز مع كونه من النظر أن يكون أيضاً من الانتظار فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وجعل في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه في اليوم الرابع. وقال بعض المفسرين: المراد منه هو ما أمهلهم الله تعالى بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام بقوله تعالى: ﴿تمتعوا في داركم ثلاثة أيام﴾ (هود: ٦٥)
وكان في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتحمر وتصفر وتسودّ قال الرازي: وهذا ضعيف، لأنّ قوله تعالى ﴿فعتوا عن أمر ربهم﴾ بحرف الفاء دليل على أنّ العتوّ كان بعد قوله تعالى: ﴿تمتعوا﴾ فإذاً الظاهر أنّ المراد هو ما قدّر الله تعالى للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل انتهى. ولحسن هذا فسرت الآية به.
﴿فما﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنهم ما ﴿استطاعوا﴾ أي: تمكنوا، وأكد النفي بقوله تعالى: ﴿من قيام﴾ أي: فما قاموا بعد نزول العذاب وما قدروا على نهوض، قال قتادة: لم ينهضوا من تلك الصرعة كقوله تعالى: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ (الأعراف: ٧٨)
وقيل: هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه ﴿وما كانوا﴾ أي: كوناً ما ﴿منتصرين﴾ أي: لم يكن فيهم أهلية الانتصار بوجه لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة، لأن تهيؤهم لذلك سقط بكل اعتبار.
ثالثها: قوله تعالى: ﴿وقوم نوح﴾ بالجرّ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي عطف على ثمود أي وفي إهلاكهم بماء السماء والأرض آية، وبالنصب وهي قراءة الباقين أي وأهلكنا قوم نوح ﴿من قبل﴾ أي: من قبل إهلاك هؤلاء المذكورين ثم علل إهلاكهم بقوله تعالى: ﴿إنهم كانوا﴾ خلقاً وطبعاً لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم ﴿قوما﴾ أي: أقوياء ﴿فاسقين﴾ أي: غريقين في الخروج عن حظيرة الدين.
ثم ذكر ما يدلّ على تمام القدرة على البعث بقوله تعالى:
﴿والسماء بنيناها﴾ أي: بمالنا من العظمة ﴿بأيدٍ﴾ أي: بقوّة وشدّة عظيمة لا يقدر قدرها. فائدة: رسمت بأيد بيائين بعد الألف ﴿وإنا﴾ على عظمتنا بعد ذلك ﴿لموسعون﴾ أي: أغنياء وقادرون ذووا سعة لا تتناهى، ولذلك أوسعنا بقدر جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا تصح معها الشركة أصلاً فلسنا كمن تعرفون من الملوك، لأنهم إذا فعلوا شيئاً لم يقدروا على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى ما ترون في جنبه ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد، وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة.
﴿والأرض فرشناها﴾ أي: بسطناها ومهدناها بما لنا من العظمة، فصارت ممهدة جديرة بأن تستقرّ عليها الأشياء، وهي آية على تمهيد أرض الجنة وسقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها ﴿فنعم﴾ أي: فتسبب عن ذلك أن يقال: في وصفنا نعم ﴿الماهدون﴾ والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي: نحن لكمال قدرتنا فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا واختيارنا وتقديرنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئاً علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إفنائه ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا، وذلك تذكير بالجنة والنار فما فيها من خير فهو آية على الجنة، وما فيها من شر فهو آية على النار وقوله تعالى:
﴿ومن كل شيء خلقنا﴾ يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا


الصفحة التالية
Icon