﴿إن الصفا والمروة﴾ هما على جبلين بمكة في طرفي المسعى، قال القرطبيّ: وذكر الصفا؛ لأن آدم وقف عليه، وأنث المروة؛ لأنّ حوّاء وقفت عليها ﴿من شعائر الله﴾ أي: أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته ﴿فمن حج البيت أو اعتمر﴾ أي: تلبس بالحج أو العمرة، والحج لغة: القصد. والاعتمار: الزيارة، فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين ﴿فلا جناح﴾ أي: لا إثم ﴿عليه أن يطوّف﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء ﴿بهما﴾ أي: بأن يسعى بينهما سبعاً.
فإن قيل: كيف أنهما من شعائر الله، ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ أجيب: بأنه كان على الصفا آساف، وعلى المروة نائلة وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فلما طالت المدّة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسخوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية، فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله، والإجماع على أنّ السعي بين الصفا والمروة مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه، فعن أحمد أنه سنة وبه قال أنس وابن عباس لقوله تعالى: ﴿فلا جناح عليه﴾ فإنه يفهم منه التخيير.
قال البيضاويّ وهو ضعيف؛ لأنّ نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب يجبر بدم. وعن مالك والشافعيّ أنه ركن لقوله ﷺ «اسعوا فإنّ الله تعالى كتب عليكم السعي» رواه البيهقيّ وغيره. وقال ﷺ «ابدؤوا بما بدأ الله به» يعني: الصفا رواه مسلم ﴿ومن تطوّع خيراً﴾ أي: فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة أو طواف، ونصب خيراً على أنه صفة مصدر محذوف أي: تطوّعاً أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه أي: بخير.
وقرأ حمزة والكسائيّ يطوّع بالياء على التذكير وتشديد الطاء والواو وسكون العين وأصله يتطوّع فأدغم مثل يطوف، والباقون بالتاء على الحضور وتخفيف الطاء وفتح العين ﴿فإنّ الله شاكر﴾ لعمله بالإثابة عليه ﴿عليم﴾ بنيته.
تنبيه: الشكر من الله أن يعطى العبد فوق ما يستحقه فإنه يشكر اليسير ويعطي الكثير.
ونزل في علماء اليهود:
﴿إن الذين يكتمون﴾ الناس كأحبار اليهود ﴿ما أنزلنا من البينات﴾ كآية الرحم ونعت محمد ﷺ ﴿والهدى﴾ أي: ما يهدي إلى وجوب اتباعه ﷺ والإيمان به ﴿من بعدما بيناه﴾ أوضحناه ﴿للناس في الكتاب﴾ أي: التوراة أي: لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الواضح، فكتموه ولبسوا على الناس ﴿أولئك يلعنهم الله﴾ وأصل اللعن الطرد والبعد ﴿ويلعنهم اللاعنون﴾ أي: يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهمّ الَعنهم.
تنبيهان: أحدهما: اختلف في هؤلاء اللاعنين، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هم جميع الخلائق إلا الجنّ والإنس، وقال عطاء: هم الجنّ والإنس، وقال الحسن: هم جميع عباد الله، وقال مجاهد: البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر وتقول: هذا من شؤم ذنوب بني آدم.
ثانيهما: هذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة ومستنبطة وتدل على امتناع أخذ الأجرة على ذلك. وقد روى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إنكم تقولون أَكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى
المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.
تنبيه: في فاعل بدا أربعة أوجه: أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين، أي: ظهر لهم حبسه. والثاني: أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا، أي: بدا لهم بداء. والثالث: أنه مضمر يدل عليه السياق، أي: بدا لهم رأي. والرابع: أنه محذوف وليسجننه قائم مقامه، أي: بدا لهم السجن، فحذف وأقيمت الجملة مقامه، وليست الجملة فاعلاً؛ لأن الجمل لا تكون كذلك، وقيل: الحبس هنا خمس سنين، وقيل: سبع سنين.
وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشرة سنة، وقال الرازي: والصحيح أنّ هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي مسجوناً مدّة طويلة لقوله تعالى: ﴿وادّكر بعد أمة﴾ (يوسف، ٤٥) وعن عكرمة قال: قال رجل ذو رأي للعزيز: متى تركت هذا العبد يعتذر إلى الناس، ويقص عليهم أمره فاتركه في بيتها لا يخرج إلى الناس فإن خرج للناس عذروه وفضحوا أهلك فأمر به فسجن.
﴿ودخل معه السجن فتيان﴾ وهما غلامان كانا للوليد بن نزوان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أنّ جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم أنّ الساقي ندم ورجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإنّ الطعام مسموم فقال الخباز: لا تشرب فإنّ الشراب مسموم. فقال الملك للساقي اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام: دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام حين دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرّب هذا العبد العبراني فنتراءى له رؤيا قال ابن مسعود: وما رأيا شيئاً وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكر أنهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤيا غمتهما، فقال يوسف: قصا عليّ ما رأيتما ﴿قال أحدهما﴾ وهو صاحب شراب الملك ﴿إني أراني أعصر خمراً﴾.
فإني قيل: كيف يعقل عصر الخمر؟ أجيب: عن ذلك بثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي: العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف.
الثاني: إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه تقول: فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً.
الثالث: قال أبو صالح: أزد وعمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها. قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب وذلك أنه قال: إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه شجرة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه، وسقيت الملك فشربه ﴿وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه﴾ وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان
وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد ﷺ وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده» ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفاً على يؤمنون مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين ﴿ويدرؤن﴾ أي: يدفعون ﴿بالحسنة﴾ من الأقوال والأفعال ﴿السيئة﴾ أي: فيمحونها بها، وقال ابن عباس: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، وقال مقاتل: يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي: بالصفح والعفو.
﴿ومما رزقناهم﴾ أي: بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلاً كان أو كثيراً ﴿ينفقون﴾ أي: يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه، ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى:
﴿وإذاسمعوا اللغو﴾ أي: ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه ﴿أعرضوا عنه﴾ تكرّماً عن الخنا، وقيل اللغو: القبيح من القول؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تباً لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ﴿وقالوا﴾ وعظاً وتسميعاً لقائله ﴿لنا﴾ خاصة ﴿أعمالنا﴾ لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون ﴿ولكم﴾ أي: خاصة ﴿أعمالكم﴾ لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم ﴿سلام عليكم﴾ متاركة لهم وتوديعاً ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه، لا سلام تحية وإكرام، ونظير ذلك ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ (الفرقان، ٦٣) ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى: حاكياً عنهم ﴿لا نبتغي﴾ أي: لا نكلف أنفسنا أن نطلب ﴿الجاهلين﴾ أي: لا نريد شيئاً من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجباً، ونزل في حرصه ﷺ على إيمان عمه أبي طالب ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ أي: نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال: أي: عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل ﷺ يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله ﷺ والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك فأنزل الله تعالى: ﴿ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ (التوبة: ١١٣)
وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسوله ﷺ ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ الآية، وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ ﷺ «أمره بالتوحيد فقال له لولا أن تعيرني قريش تقول إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى الآية» وروي أنّ أبا طالب قال عند موته يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبيّ ﷺ يا عمّ
قال: آخر، أو كانت للشك لأنّ الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس، والمجنون بالضدّ من ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى ﴿إلا قالوا﴾ يدل على أنهم كلهم قالوا ذلك والأمر ليس كذلك، لأنّ ما من رسول إلا وآمن به قوم أجيب: بأنّ ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قالوا كلهم وإنما قال إلا قالوا ولما كان كثير منهم قائلين قال تعالى إلا ﴿إلا قالوا﴾.
فإن قيل: فلم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذبين، وقال: إلا قال بعضهم: صدقت وبعضهم كذبت أجيب: بأنّ المقصود التسلية وهي أعلى التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإنّ أقواماً قبلك كذبوا ورسلاً كذبوا.
ثم عجب منهم بقوله تعالى:
﴿أتواصوا به﴾ فهو استفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في به يعود على القول المدلول عليه بقالوا، أي أتواصوا الأوّلون والآخرون بهذا القول المتضمن لساحر أو مجنون والمعنى: كيف اتفقوا على معنى واحد، كأنهم تواطؤا عليه وأوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وقوله تعالى ﴿بل هم قوم﴾ أي: ذو شماخة وكبر ﴿طاغون﴾ إضراب عن أنّ التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه، ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه ﷺ بقوله تعالى:
﴿فتولّ﴾ أي: أعرض ﴿عنهم﴾ أي: كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام ﴿فما أنت بملوم﴾ لأنك بلغتهم الرسالة وما قصرت فيما أمرت به.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية «حزن النبيّ ﷺ واشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وإن العذاب قد حضر إذ أمر النبيّ ﷺ أن يتولى عنهم» فأنزل الله تعالى:
﴿وذكر﴾ أي: ولا تدع التذكير والموعظة ﴿فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ فطابت أنفسهم، والمعنى: ليس التولي مطلقاً بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرّك إذا كان عليهم ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين، وقال مقاتل: معناه عظ بالقرآن كفار مكة فإنّ الذكرى تنفع من علم الله تعالى أنه مؤمن منهم، وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم.
ولما بين حال من قبل النبيّ ﷺ في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى:
﴿وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون﴾ واختلف في تفسير ذلك فأكثر المفسرين على أن المراد بهم العموم، ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأنّ الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به هكذا قال الجلال المحلي، وأوضح منه ما قاله ابن عادل: إنّ المعنى إلا معدّين للعبادة ثم منهم من يتأتى منه ذلك ومنهم من لا، كقولك: هذا القلم بريته للكتابة ثم قد لا تكتب به وقد تكتب انتهى أو إنّ المراد إلا لأمرهم بالعبادة وليقروا بها وهذا منقول عن عليّ بن أبي طالب، أو إنّ المراد ليطيعوا وينقادوا لقضائي، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر يفعل ذلك كرهاً، أو أنّ المراد إلا ليوحدون فأمّا المؤمن فيوحد اختياراً في الشدّة والرخاء، وأمّا الكافر فيوحد اضطراراً في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء. وقال مجاهد: معناه إلا ليعرفون قال البغوي: وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده بدليل قوله تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله﴾ (الزخرف: ٨٧)
وقيل: المراد به الخصوص أي:


الصفحة التالية
Icon