مدّها أو بسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات وغير ذلك.
﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي: تعاقبهما في المجيء والذهاب يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي: بعده قال تعالى: ﴿وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة﴾ (الفرقان، ٦٣) قال عطاء: أراد اختلافهما في النور والظلمة، والزيادة والنقصان، والليل: جمع ليل، والليالي: جمع الجمع، والنهار: جمع نهر. وقدّم الليل على النهار في الذكر؛ لأنه أقدم قال تعالى: ﴿وآية لهم الليل نسلخ منه النهار﴾ (يس، ٣٧) ﴿والفلك﴾ أي: السفن ﴿التي تجري في البحر بما ينفع الناس﴾ من التجارة والحمل، والآية فيها تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقورة لا ترسب تحت الماء.
تنبيه: أنث الفلك؛ لأنه بمعنى السفينة؛ لأنّ واحد السفن وجمعه سواء إذ لو كانت بمعنى المركب لذكرها مع أنها في اللغة تذكر وتؤنث، قال تعالى: ﴿إذ أبق إلى الفلك المشحون﴾ (الصافات، ١٤٠) وضمة الجمع غير ضمة الواحدة تقديراً؛ إذ هي في الجمع كالضمة في حمر، وفي الواحد كالضمة في قفل، قال البيضاوي: والقصد به أي: الفلك إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر؛ لأنه سبب الخوض فيه أي: البحر والإطلاع على عجائبه، ولذلك قدّمت على ذكر المطر والسحاب؛ لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر اه. فجعل الآية في البحر لا في السفن، والأولى جعل الآية فيها وقوله؛ لأنّ منشأهما البحر هو قول الحكماء والإشارة على خلافه وهو الذي دلت عليه الأخبار. قال شيخنا القاضي زكريا: وحاصله: أنّ السحاب من شجرة مثمرة في الجنة، والمطر من بحر تحت العرش ﴿وما أنزل الله من السماء من ماء﴾ أي: مطر.
تنبيه: من الأولى للابتداء، والثانية للبيان، قال البغويّ: قيل: أراد بالسماء السحاب يخلق الله الماء في السحاب، ثم من السحاب ينزل. وقيل: أراد بالسماء المعروفة يخلق الله الماء في السماء، ثم ينزل من السماء إلى السحاب؛ ثم من السحاب ينزل إلى الأرض اه. وفيه ما مرّ ﴿فأحيا به الأرض﴾ بالنبات ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها وجدوبتها ﴿وبث﴾ أي: فرّق ونشر بالماء ﴿فيها﴾ في الأرض ﴿من كلّ دابة﴾.
فإن قيل: هل بث عطف على أنزل أو أحيا؟ أجيب: بأنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة؛ لأن قوله: فأحيا به الأرض عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة، ويجوز عطفه على أحيا على معنى، فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة؛ لأن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا أي: المطر ﴿وتصريف الرياح﴾ إلى قبول ودبور، وجنوب وشمال، فالقبول: الصبا وهي التي تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، والدبور: تقابلها، والشمال: التي تهب من جانب القطب، والجنوب: تقابلها. قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء، وسميت الريح ريحاً؛ لأنها تريح النفوس. قال شريح القاضي: ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح.
فائدة: البشارة في ثلاث: من الرياح في الصبا، والشمال والجنوب. أمّا الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها، وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وهي: المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات، وأربعة: للعذاب وهي العقيم والصرصر في البر، والعاصف والقاصف في البحر. وقرأ حمزة والكسائيّ: الريح بالتوحيد، والباقون بالجمع.
فائدة أخرى: كل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام اتفق القرّاء على توحيدها،
لأنّ؛ أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الملائكة، فقوله: من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله ﴿ذلك﴾، أي: التوحيد ﴿من فضل الله علينا﴾ بالوحي ﴿وعلى الناس﴾، أي: سائرهم ببعثنا لارشادهم وتثبيتهم عليه ﴿ولكنّ أكثر الناس﴾، أي: المبعوث إليهم ﴿لا يشكرون﴾ هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره ثم دعاهم إلى الإيمان فقال:
﴿يا صاحبي السجن﴾، أي: يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب النار ﴿أأرباب﴾، أي: آلهة ﴿متفرقون﴾، أي: متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك ﴿خير﴾، أي: أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة ﴿أم الله الواحد القهار﴾، أي: المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير، والاستفهام للتقرير، وفي الهمزتين في ﴿أأرباب﴾ من القراءات ما في ﴿أأنذرتهم﴾ وقد مرّ.
فإن قيل: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال: إنها خير أم الله؟ أجيب: بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار. ثم بين عجز الأصنام فقال:
﴿ما تعبدون﴾ وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله: ﴿من دونه﴾، أي: الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك ﴿إلا أسماء﴾ وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله ﴿سميتموها﴾، أي: ذوات أوجدتم لها أسماء ﴿أنتم﴾ سميتموها آلهة وأرباباً، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها ﴿وآباؤكم﴾ من قبلكم سموها كذلك ﴿ما أنزل الله بها﴾، أي: بعبادتها ﴿من سلطان﴾، أي: حجة وبرهان ﴿إن الحكم﴾، أي: ما الحكم ﴿إلا لله﴾، أي: المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة ﴿أمر﴾ وهو النافذ الأمر المطاع الحكم ﴿أن لا تعبدوا إلا إياه﴾ ؛ لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديراً بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيهاً على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال: ﴿ذلك﴾، أي: الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه ﴿الدين القيم﴾، أي: المستقيم الذي لا عوج فيه ﴿ولكنَّ أكثر الناس﴾ وهم الكفار ﴿لا يعلمون﴾ ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون. ولما قرر يوسف عليه السلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال:
﴿يا صاحبي السجن﴾، أي: الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب، فتخلص فيه المودّة، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال: ﴿أمّا أحدكما﴾ وهو صاحب شراب الملك ﴿فيسقي ربه﴾، أي: سيده ﴿خمراً﴾ على
كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً فجاءت امرأة لها جمال فطافت عريانة فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها فأدنى عضده من عضدها فالتزقت عضده بعضدها فخرجا من المسجد هاربين فزعين على وجوههما لما أصابهما من العقوبة فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا فعادا ودعوا وأخلصا النية فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية.
وعن عبد العزيز بن رواد أنّ قوماً انتهوا إلى ذي طوى فإذا ظبي قد دنا منهم فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه: ويحك أرسله فجعل يضحك وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ثم أرسله فناموا في القائلة ثم انتبهوا فإذا بحية متطوّقة على بطن الرجل الذي أخذ الظبي فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحدث مثل ما كان من الظبي.
وعن مجاهد قال: دخل قوم مكة تجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ليأتدموا بها فبينما قدرهم على النار يغلي لحمه إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم.
وعن أيوب بن موسى أنّ امرأة في الجاهلية كان معها ابن عمّ لها صغير فقالت له: يا بني إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد فإن جاءك ظالم بعدي فإنّ لله بمكة بيتاً سيمنعك فجاءه رجل فاسترقه فلما رأى الغلام البيت عرفه بالصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت فجاءه سيده فمدّ يده إليه ليأخذه فيبست يده فمدّ الأخرى فيبست فاستفتى فأفتي أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ففعل فأطلقت يداه وترك الغلام وخلى سبيله.
وعن أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنّ رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عمّ له فخوّفه بالدعاء في الحرم فقال هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء في الحرم فجاء في الحرم في الشهر الحرام فقال اللهمّ إني أدعوك جاهداً مضطرّاً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول:

*لا همّ أدعوك دعاء جاهداً اقتل بني ضبعاء إلا واحداً*
*ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً أعمى إذا قيد يعيي القائداً*
قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عز وجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكَّن أهله في الحرم الذي
يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما تعلم أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن دم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي».
فإن قيل: ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أنّ من لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه؟ أجيب: بأنّ السيد قد يطلب من العبد المكتسب له الرزق وقد يكون للسيد مال وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه وإحضار الطعام بين يديه فقال: لا أريد ذلك ولا هذا وقدم طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أنّ المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟ أجيب: بأنه لما عمم النفي في طلب الأوّل بقوله تعالى ﴿من رزق﴾ وذلك إشارة إلى التعميم فذكر الإطعام ونفى الأدنى ليتبعه بنفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قال: ما أريد منهم من غنى ولا عمل.
فإن قيل: المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإنّ السيد قد يشتري العبد لا لطلب رزق منه ولا للتعظيم بل يشتريه للتجارة. أجيب: بأن العموم في قوله تعالى: ﴿ما أريد منهم من رزق﴾ يتناول ذلك.
ثم بين تعالى أنه الرزاق لا غيره بقوله عز من قائل.
﴿إن الله﴾ أي: المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن جميع صفات النقص ﴿هو﴾ أي: لا غيره ﴿الرزاق﴾ أي: على سبيل التكرار لكل حيّ وفي كل وقت ﴿ذو القوّة﴾ أي: التي لا تزول بوجه ﴿المتين﴾ أي: الشديد الدائم.
فإن قيل: لم لم يقل إني رزاق؟ بل قال على الحكاية عن الغائب إنّ الله هو الرزاق فما الحكمة أجيب: بأنّ المعنى قل يا محمد إنّ الله هو الرزاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله تعالى: ﴿ما أريد منهم من رزق﴾ ولم يقل القوي بل قال ذو القوّة لأنّ المقصود تقرير ما تقدّم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير، وقيد بالمتين لأنّ ذو القوّة لا يدل إلا على أنّ له قوّة ما فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء.
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم إلى أن ختم بقوته التي لا حدّ لها سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم:
﴿فإن للذين ظلموا﴾ أي: أوقعوا الأشياء في غير مواقعها ﴿ذنوباً﴾ أي: نصيباً من العذاب طويل الشرّ كأنه من طوله صاحب ذنب ﴿مثل ذنوب أصحابهم﴾ أي: الذين تقدّم ظلمهم بتكذيب الرسل من قوم نوح وعاد وثمود، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء وفي الحديث «فأتى بذنوب من ماء» فإن لم تكن ملأى فهي دلو ثم عبر به عن النصيب قال عمرو بن شاس:
*وفي كل حيّ قد خطبت بنعمة فحق لشاس من نداك ذنوب*
قال الملك: نعم وأذنبه، قال الزمخشري: وهذا تمثيل أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا آخر. قال الشاعر:


الصفحة التالية
Icon