ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه ﴿و﴾ يأمركم أيضاً ﴿أن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى:
﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله﴾ من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً﴾ عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل: مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.
روي عن ابن عباس أنه قال: دعا رسول الله ﷺ اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿قالوا﴾ لا نتبعه ﴿بل نتبع ما ألفينا﴾ أي: وجدنا وأدركنا أو علمنا، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله ﴿عليه آباءنا﴾ من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى: ﴿أولو كان﴾ أي: أيتبعونهم ولو كان ﴿آباؤهم لا يعقلون شيئاً﴾ أي: من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، فلفظه عام ومعناه الخصوص ﴿ولا يهتدون﴾ أي: الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.
﴿ومثل﴾ أي: صفة ﴿الذين كفروا﴾ ومن يدعوهم إلى الهدى ﴿كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء﴾ أي: صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال: نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل:

*فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا*
وأمّا تعق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل: معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى: ﴿وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم﴾ (فاطر، ١٤) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال: ﴿صمّ﴾ أي: هم صم عن سماع الحق، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم ﴿بكم﴾ عن الخير لا يقولونه ﴿عمي﴾ عن الهدى لا يبصرونه ﴿فهم لا يعقلون﴾ الموعظة لإضلال نظرهم ﴿يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات﴾ أي: حلالات ﴿ما رزقناكم﴾.
قال البيضاوي: واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى.
قال شيخنا القاضي زكريا: ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه ﴿و﴾ يأمركم أيضاً ﴿أن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى:
﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله﴾ من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً﴾ عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل: مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.
روي عن ابن عباس أنه قال: دعا رسول الله ﷺ اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿قالوا﴾ لا نتبعه ﴿بل نتبع ما ألفينا﴾ أي: وجدنا وأدركنا أو علمنا، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله ﴿عليه آباءنا﴾ من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى: ﴿أولو كان﴾ أي: أيتبعونهم ولو كان ﴿آباؤهم لا يعقلون شيئاً﴾ أي: من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، فلفظه عام ومعناه الخصوص ﴿ولا يهتدون﴾ أي: الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.
﴿ومثل﴾ أي: صفة ﴿الذين كفروا﴾ ومن يدعوهم إلى الهدى ﴿كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء﴾ أي: صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال: نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل:
*فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا*
وأمّا تعق الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل: معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى: ﴿وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم﴾ (فاطر، ١٤) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال: ﴿صمّ﴾ أي: هم صم عن سماع الحق، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم ﴿بكم﴾ عن الخير لا يقولونه ﴿عمي﴾ عن الهدى لا يبصرونه ﴿فهم لا يعقلون﴾ الموعظة لإضلال نظرهم ﴿يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات﴾ أي: حلالات ﴿ما رزقناكم﴾.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: «يا أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يأيها الرسل كلوا من الطيبات﴾ (المؤمنون، ٥١) وقال: ﴿يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ » ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك؟». ولما وسع الله تعالى الأمر على الناس كافة، وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرّم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحرّوا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال: ﴿واشكروا﴾ على ما رزقكم وأحل لكم ﴿إن كنتم إياه تعبدون﴾ أي: إن صح
لكونه من حديث النفس ووسوسة الشيطان لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها؛ لأنّ الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحزين الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس، ثم قالوا: ﴿وما نحن﴾، أي: بأجمعنا ﴿بتأويل الأحلام﴾، أي: المنامات الباطلة ﴿بعالمين﴾، أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة كأنه مقدّمة ثانية للعذر ولما سأل الملك عن هذه الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف عليه السلام؛ لأنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم كما قال تعالى:
﴿وقال الذي نجا﴾، أي: خلص ﴿منهما﴾، أي: من صاحبي السجن وهو الشرابي إنّ في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في كل ما ذكر وما أخطأ في حرف، فكانت هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام، ولم يتذكر الشرابي إلا بعد طول المدّة كما قال تعالى: ﴿وادّكر﴾ بالدال المهملة، أي: طلب الذكر بالذال المعجمة وزنه افتعل ﴿بعد أمّة﴾، أي: وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة، والجملة اعتراض ومقول القول ﴿أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون﴾، أي: إلى يوسف عليه السلام فإنه أعلم الناس فأرسلوه إليه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولم يكن السجن بالمدينة فأتاه، فقال الساقي المرسل إليه منادياً له نداء القرب تحبباً إليه:
﴿يوسف﴾ وزاد في التحبب بقوله ﴿أيها الصدّيق﴾، أي: البليغ في الصدق والتصديق؛ لأنه جرّب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وهذا يدل على أنّ من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال، ثم إنه أعاد السؤال يعني اللفظ الذي ذكره الملك فقال: ﴿أفتنا﴾، أي: اذكر لنا الحكم ﴿في سبع بقرات سمان﴾، أي: رآهنّ الملك ﴿يأكلهنّ سبع﴾ من البقر ﴿عجاف و﴾ في ﴿سبع سنبلات﴾ جمع سنبلة وهي مجمع الحب من الزرع ﴿خضر و﴾ في سبع ﴿أخر﴾ من السنابل ﴿يابسات﴾، أي: في رؤيا ذلك، ونعم ما فعل من ذكر السؤال بعين اللفظ، فإنّ نفس الرؤيا قد تختلف بحسب اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في ذلك العلم ثم قال: ﴿لعلي أرجع إلى الناس﴾، أي: إلى الملك وجماعته بفتواك قبل مانع يمنعني ﴿لعلهم يرجعون﴾، أي: بتأويل هذه الرؤيا، وقيل: بمنزلتك في العلم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء، والباقون بالسكون.
﴿قال﴾ يوسف عليه السلام معبراً لتلك الرؤيا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، وأمّا البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله ﴿تزرعون سبع سنين﴾ وهو خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن﴾ (البقرة، ٢٢٨) ﴿والوالدات يرضعن﴾ (البقرة، ٢٣٣) وإنما خرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: ﴿فذروه في سنبله﴾ وقوله: ﴿دأباً﴾ نصب على الحال، أي: دائبين، أي: سبع سنين متتابعة على عادتكم في الزراعة، والدأب العادة، وقيل: ازرعوا بجد واجتهاد، وهذا تأويل السبع السمان والسنبلات الخضر. وقرأ حفص بفتح الهمزة، وسكنها الباقون، وأبدلها السوسي ألفا وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً فقط. ﴿فما حصدتم فذروه﴾، أي: اتركوه ﴿في سنبله﴾ لئلا يفسد ولا يقع فيه السوس، وذلك أبقى له على
مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب للتحسر على الانقطاع، وعن ابن عباس أن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن والمنافق والكافر فالمؤمن يتزوّد والمنافق يتزين والكافر يتمتع ﴿ثم هو﴾ مع ذلك كله ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو يوم التغابن من خسر فيه لم يربح أصلاً ﴿من المحضرين﴾ أي: المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بملء الأرض ذهباً لم يقبل منه، قال قتادة يحضره المؤمن والكافر، قال مجاهد: نزلت في النبيّ ﷺ وأبي جهل، وقال محمد بن كعب نزلت في حمزة وعلي وفي أبي جهل، وقال السدّي: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.
تنبيه: ثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع في الزمان أو الرتبة، وقرأ ثم هو قالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم.
﴿ويوم﴾ أي: واذكر يوم ﴿يناديهم﴾ أي: ينادي الله هؤلاء الذين يضلون الناس ويصدّون عن سبيل الله ﴿فيقول﴾ أي: الله تعالى ﴿أين شركائي﴾ من الأوثان وغيرهم ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله تعالى: ﴿الذين كنتم﴾ أي: كوناً غريقين فيه ﴿تزعمون﴾ أنها تشفع ليدفعوا عنكم وعن أنفسهم فيخلصكم من هذا الذي نزل بكم، تنبيه: تزعمون مفعولاه محذوفان أي: تزعمونهم شركائي ﴿قال الذي حق﴾ أي: ثبت ووجب ﴿عليهم القول﴾ أي: بدخول النار وهم رؤوس الضلالة وهو قوله تعالى: ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (هود، ١١٩) وغيره من آيات الوعيد وقولهم ﴿ربنا هؤلاء﴾ إشارة للإتباع ﴿الذين أغوينا﴾ أي: أوقعنا الأغواء وهو الإضلال بهم صفته والعائد حذف وقولهم ﴿أغويناهم﴾ أي: فغووا باختيارهم ﴿كما غوينا﴾ أي: نحن فهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصول محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا لا أنّ فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء، أو دعونا إلى الغي وسوّلوه لنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأنّ أغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم وإن كان تسويلنا لهم داعياً إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله تعالى لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وبما بعث إليهم من الرسل وأنزل إليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان، وهذا معنى ما حكاه الله تعالى عن الشيطان: ﴿إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾ (إبراهيم، ٢٢).
تنبيه: اعترض أبو علي على الزمخشريّ في هذا الإعراب بأن الخبر ليس فيه زيادة فائدة على ما في صفته، فإن قلت قد وصل الخبر بقوله كما غوينا وفيه زيادة قلت الزيادة بالظرف لا تصيِّره أصلاً في الجملة لأنّ الظروف فضلات، ثم إنه أعرب هو هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا خبره وأغويناهم مستأنف، وأجاب أبو البقاء وغيره بأن الظروف قد تلزم كقولك زيد عمرو قائم في داره ثم أشاروا بقولهم ﴿تبرأنا إليك﴾ أي: من أمورهم إلى أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم فهو تقرير للجملة الأولى ولهذا خلت عن العاطف وعلى تقدير إغوائنا لهم ﴿ما كانوا إيانا﴾ أي: خاصة ﴿يعبدون﴾ بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء إليه وحث عليه
بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله ﷺ في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله تعالى: ﴿إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع﴾ فكأنما صدع قلبي حين سمعته ولم أكن أسلمت يومئذ فأسلمت خوفاً من العذاب وما كنت أظنّ أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.
ثم بين تعالى أنه متى يقع بقوله تعالى ﴿يوم تمور السماء﴾ أي: تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتدور دوران الرحى ويموج بعضها في بعض وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض. قال البغوي: والمور يجمع هذه المعاني وهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردّد والدوران والاضطراب قال الرازي: وقيل تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل ﴿موراً﴾ أي: اضطراباً شديداً.
﴿وتسير الجبال﴾ أي: تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب وحقق معناه بقوله تعالى ﴿سيراً﴾ فتصير هباء منثوراً وتكون الأرض قاعاً صفصفاً.
ثم بيّن من يقع عليه العذاب بقوله تعالى ﴿فويل﴾ أي: شدة عذاب ﴿يومئذ﴾ أي: يوم إذ يكون ما تقدّم ذكره ﴿للمكذبين﴾ أي: الغريقين في التكذيب للرسل.
﴿الذين هم﴾ من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم ﴿في خوض﴾ أي: أقوالهم وأفعالهم أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله ﴿يلعبون﴾ فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل الخوض واللعب فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه فلا يؤسس على بيان أو حجة.
فإن قيل: أهل الكبائر لا يكذبون فمقتضى ذلك أنهم لا يعذبون. أجيب بأنّ ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر لقوله تعالى ﴿كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا﴾ (الملك: ٨ ـ ٩)
فالمؤمن لا يلقى فيها إلقاء هوان وإنما يدخل فيها للتطهير إدخالاً مع نوع إكرام فالويل إنما هو للمكذبين.
وقوله تعالى: ﴿يوم يدعون﴾ بدل من يوم تمور السماء أو من يومئذ قبله تقديره: فويل يومئذ يوم يدعون، أي: يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل من يقيمه الله تعالى لذلك ذاهبين ومتهيئين ﴿إلى نار جهنم﴾ وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة وأكد المعنى وحققه بقوله تعالى ﴿دعّاً﴾.
قال البغوي: وذلك أنّ خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً ﴿هذه النار﴾ أي: الجسم المحرق المفسد لما اتى عليه الشاغل عن اللعب ﴿التي كنتم بها﴾ في الدنيا ﴿تكذبون﴾ على التجدّد والاستمرار.
خبر مقدّم وقوله تعالى ﴿هذا﴾ هو المبتدأ وقدّم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً ﷺ إلى السحر وأنه يغطي الأبصار بالسحر وأنّ انشقاق القمر وأمثاله سحر فوبخوا به، وقيل لهم: ﴿أفسحر هذا﴾ أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون فيه ﴿أم أنتم﴾ في منام أو نحوه ﴿لا تبصرون﴾ بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا قلوبنا في أكنة، ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمنذر ﴿بيننا وبينك حجاب فاعمل أننا عاملون﴾ (فصلت: ٥)
﴿اصلوها﴾ أي: إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فقاسوا شدّتها ﴿فاصبروا﴾ على هذا الذي لا طاقة لكم به ﴿أو لا تصبروا﴾ فإنه لا محيص لكم عنه {سواء


الصفحة التالية
Icon