والكسائي بفتح الواو من موص وتشديد الصاد، والباقون بسكون الواو وتخفيف الصاد ﴿جنفاً﴾ أي ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية ﴿أو إثماً﴾ بأن تعمد الحيف في الوصية ﴿فأصلح بينهم﴾ بين الوصي والموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع ﴿فلا إثم عليه﴾ في هذا التبديل؛ لأنه تبديل؛ باطل إلى الحق بخلاف الأوّل ﴿إن الله غفور رحيم﴾ فيه وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم.
﴿يأيها الذين آمنوا كتب﴾ أي: فرض ﴿عليكم الصيام﴾ هو لغة: الإمساك عما تنازع فيه النفس ومنه قوله تعالى: ﴿فقولي إني نذرت للرحمن صوماً﴾ (مريم، ٢٦) أي: صمتاً؛ لأنه إمساك عن الكلام. وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات مع النية فإنها معظم ما تشتهيه النفس ﴿كما كتب على الذين من قبلكم﴾ من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال عليّ رضي الله تعالى عنه: أوّلهم آدم يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم.
وفي قوله تعالى: ﴿كتب عليكم﴾ إلخ.. توكيد للحكم وترغيب على الفعل وتطييب على النفس وفي موضع التشبيه في كاف كما كتب قولان: أحدهما أنّ التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عدده. قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم أنه لم يحل له أن يطعم إلى الليلة القابلة والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم هذا، فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث﴾ (البقرة، ١٨٧) الآية فإنها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين، والثاني: إنه كصومهم في عدد الأيام لما روي أنّ رمضان كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان ـ أي: وهو بضم الميم ـ موت يقع على الماشية فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده، فجعلوه خمسين وقيل: كان يقع في الحرّ الشديد وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرّهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع وقالوا: نزيد عشرين يوماً تكفر ما صنعنا. قال السديّ عن مشايخه، وقيل: زادوا فيه عشرة أيام أولاً كفارة لما صنعوا، فصار أربعين يوماً ثم أن ملكهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو شفي من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرأ فزاد فيه أسبوعاً ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال: أتموه خمسين يوماً وعلى هذا تكون الآية محكمة لا منسوخة.
﴿لعلكم تتقون﴾ بصومكم للمعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي: مؤن النكاح ـ فليتزوّج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أي: قاطع لشهوته أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين؛ لأن الصوم شعارهم وقوله تعالى:
﴿أياماً﴾ نصب بصوموا مقدّراً بينهما لدلالة الصيام عليه بالصيام لوقوع الفصل بينهما ﴿معدودات﴾ أي: قلائل كقوله تعالى: ﴿دراهم معدودة﴾ (يوسف، ٢٠) وأصله أنّ المال القليل يقدر بالعدد ويحكر فيه والكثير يهال هيلاً ويحثى حثياً أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي وقلله تسهيلاً على المكلفين وقيل: هي عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر كتب على رسول الله ﷺ صيامها حين هاجر ثم نسخت بشهر رمضان ﴿فمن كان منكم مريضاً﴾ مرضاً يضرّه الصوم ويعسر معه ﴿أو على سفر﴾ أي: مسافراً
كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته، ثم مات قطفير بعد ذلك فزوّجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ قالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عليه السلام عذراء فأصابها فولدت له ذكرين افراثيم وميشا، فأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدواب في السنة الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في السنة الرابعة، ثم بالضياع والعقار في السنة الخامسة، ثم بأولادهم في السنة السادسة، ثم برقابهم في السنة السابعة حتى لم يبق بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار عبداً له، فقال الناس: ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم من هذا صار كل الخلق عبيداً له، فلما سمع ذلك قال: إني أشهد الله أني اعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع أحداً ممن يطلب الطعام أكثر من حمل بعير؛ لئلا يضيق الطعام على الباقين هذا ملخص ما قاله البغوي والزمخشري وغيرهما.
قال الرازي: والله أعلم بحقيقة الحال وروي أنّ يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: إن شبعت نسيت الجائع، وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غداءه نصف النهار أراد بذلك أن يذيق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين قال البغوي: فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار قال الله تعالى: ﴿نصيب﴾، أي: نخص ﴿برحمتنا من نشاء﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ولا نضيع أجر المحسنين﴾ بل نؤتيهم أجورهم عاجلاً؛ وآجلاً لأنّ إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل ممتنع في حق الله تعالى فالإضاعة ممتنعة.
﴿ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ الشرك والفواحش، قال الرازي: وهذا تنصيص من الله تعالى على أنّ يوسف عليه السلام كان في الزمان السابق من المتقين وليس هاهنا زمان سابق يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ولقد همت به وهمّ بها﴾ فكان هذا من الله تعالى شهادة بأنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله: ﴿ولا نضيع أجر المحسنين﴾ شهادة من الله تعالى على أنه كان من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأنّ يوسف كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من المذنبين ولا شك أن من لم يقبل قول الله تعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين. ولما اشتدّ القحط وعظم البلاء عم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام وأرض كنعان، وقصد الناس مصر من كل مكان للميرة، فجعل يوسف عليه السلام لا يعطي أحداً أكثر من حمل بعير وإن كان عظيماً تقسيطاً بين الناس. وتزاحم الناس عليه، ونزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدّة، فبعث بنيه إلى مصر للميرة وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه فذلك قوله تعالى:
﴿وجاء إخوة يوسف﴾ وكانوا عشرة وكان منزلهم بالعربات من أرض فلسطين ثغور الشأم وكانوا أهل إبل وشياه، فدعاهم أبوهم يعقوب عليه السلام، وقال: بلغني أن
الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة ﴿الدار الآخرة﴾ بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة ﴿ولا تنس﴾ أي: ولا تترك ﴿نصيبك من الدنيا﴾ قال مجاهد: لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، وقال السدّيّ: بالصدقة وصلة الرحم.
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، روي أنه ﷺ قال فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله ﷺ قال لرجل وهو يعظه «اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك»، وقال الحسن: أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه، وقال منصور بن زادان قوتك وقوت أهلك ﴿وأحسن﴾ أي: أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر ﴿كما أحسن الله﴾ الجامع لصفات الكمال ﴿إليك﴾ بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك ﴿ولا تبغ﴾ أي: ولا ترد إرادة ما، ﴿الفساد في الأرض﴾ بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل ﴿إن الله﴾ أي: العالم بكل شيء القدير على كل شيء ﴿لا يحب المفسدين﴾ أي: لا يعاملهم معاملة من يحبه، وقيل أن القائل له هذا موسى عليه السلام، وقيل مؤمنو قومه، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد
عليه كفر النعمة بأن. ﴿قال﴾ أي: قارون في الجواب ﴿إنما أوتيته﴾ أي: هذا المال ﴿على علم﴾ حاصل ﴿عندي﴾ فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي: فرآني له أهلاً ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقيل هو علم الكيمياء، وقال سعيد ابن المسيب كان موسى يعلم الكيمياء فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلَّم كالب ابن يوفنا ثلثه وعلَّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب، ثم أجاب الله تعالى: عن كلامه بقوله تعالى: ﴿أو لم يعلم أنّ الله﴾ أي: بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال ﴿قد أهلك﴾ وقوله تعالى: ﴿من قبله من القرون﴾ فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى: ﴿ومن هو أشدّ منه قوة﴾ أي: في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم ﴿وأكثر جمعاً﴾ في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عز وجل: ﴿ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون﴾ فقال قتادة يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن: لا يسئلون سؤال
في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزون عن مثله بل عن مثل شيء منه.
تنبيه: التقوّل تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى ﴿أم يقولون شاعر﴾ تقديره أم يقولون شاعر أم يقولون تقوّله والمعنى ليس الأمر كما زعموا ﴿بل لا يؤمنون﴾ بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحجة وأبطل جميع الأقسام.
فقال عز من قائل: ﴿فليأتوا﴾ أي: على أيّ تقدير أرادوه ﴿بحديث﴾ أي: كلام مفرق مجدّد إتيانه مع الأزمان ﴿مثله﴾ أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه لا نكلفهم أن يأتوا به جملة.
فإن قيل: الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير، والموصوف هنا حديث وهو منكر ومثله مضاف إلى القرآن والمضاف إلى القرآن معرّف فكيف هذا. أجيب: بأنّ مثلاً وغيراً لا يتعرّفان بالإضافة وذلك أن غيرا ومثلاً وأمثالهما في غاية التنكير لأنك إذا قلت: مثل زيد يتناول كل شيء فإنّ كل شيء مثل زيد في شيء فالحمار مثله في الجسم والحجم والإمكان، والنبات مثله في النموّ والنشء والذبول والفناء، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأمّا غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت: غير زيد صار في غاية الإبهام فإنه يتناول أموراً لا حصر لها وأما إذا قطعت غير عن الإضافة فربما يكون الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس وتجعله مبتدأ أو تريد به معنى معيناً.
تنبيه: قالت المعتزلة: الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً، وأجيبوا: بأنّ الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والمنقول ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم أي متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لانزاع فيه. قال بعض العلماء: وهذا أمر تعجيز، قال الرازي: والظاهر أنّ الأمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقاً بل قال تعالى: ﴿إن كانوا﴾ أي: كوناً هم راسخون فيه ﴿صادقين﴾ أي: في أنه تقوله من عند نفسه كما يزعمون فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى: ﴿فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر﴾ (البقرة: ٢٥٨)
وفي هذا تشنيع عليهم سواء ادعوا أنه مجنون أم شاعر أم كاهن أم غير ذلك، لأنّ العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساو لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به، فإنه ﷺ مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي وهو المراد من تكذيبهم.
﴿أم خلقوا﴾ أي: وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة ﴿من غير شيء﴾ أي: خالق خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق ﴿أم هم الخالقون﴾ لأنفسهم وذلك في البطلان أشدّ، لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأنّ لهم خالقاً وهو الله تعالى فلم لا يوحدنه ويؤمنون به وبرسوله وبكتابه وقال الزجاج: معناه أخلقوا باطلاً لا يحاسبون