التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمضان الحر قال أئمة اللغة: كان أسماء الشهور في اللغة القديمة: مؤتمر ناجر خوان وبصان حنين ورنه الأصم وعل ناتق عادل هواع يراك فغيرت إلى محرّم صفر ربيع الأوّل ربيع الثاني جمادى الأول جمادى الثانية رجب شعبان رمضان شوّال ذي القعدة ذي الحجة على الترتيب وسمي المحرم لتحريم القتال فيه وصفر لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، والربيعان لارتباع الناس فيهما أي: إقامتهم وجماديان لجمود الماء فيهما ورجب لترجيب العرب إياه أي: تعظيمهم له وشعبان لتشعب القبائل فيه، ورمضان لرمض الفصال فيه، وشوّال لشول أذناب اللواقح فيه، وذو القعدة للقعود فيه عن الحرب، وذو الحجة لحجهم فيه ﴿الذي أنزل فيه القرآن﴾ جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر ثم تنزل منجماً إلى الأرض وقيل: ابتدىء فيه إنزاله وكان ذلك ليلة القدر وقيل: أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى: ﴿كتب عليكم الصيام﴾ وعن النبيّ ﷺ «نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين» رواه الإمام أحمد وغيره.
تنبيه: قال ابن عادل: يروى أنّ جبريل عليه السلام نزل على آدم اثنتي عشرة مرّة، وعلى إدريس أربع مرّات، وعلى إبراهيم اثنين وأربعين مرّة، وعلى نوح خمسين مرّة، وعلى موسى أربعمائة مرّة، وعلى عيسى عشر مرّات، وعلى محمد ﷺ أربعة وعشرين ألف مرّة، وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الراء وتصير الراء مفتوحة وألف بعدها في المعرف والمنكر حيث جاء وكذا يقرأ حمزة في الوقف وقوله تعالى: ﴿هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان﴾ حالان من القرآن أي: أنزل وهو هداية للناس لإعجازه من الضلالة إلى الحق وهو آيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل مما فيه من الحكم والأحكام.
فإن قيل: فما معنى قوله: وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس؟ أجيب: بأنه تعالى ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق به الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال ﴿فمن شهد﴾ أي: حضر ﴿منكم الشهر فليصمه﴾ وقوله تعالى: ﴿ومن كان مريضاً أو على سفر﴾ أي: فأفطر ﴿فعدّة من أيام أخر﴾ تقدّم مثله وكرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم من شهد ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ أي: يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر ولذلك أباح لكم الفطر في المرض والسفر. واختلفوا هل الفطر في السفر أفضل أو الصوم؟ والأصح أنه إن شق عليه الصوم فالفطر أفضل وإلا فالصوم. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا: لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقول النبيّ ﷺ «ليس من البرّ الصيام في السفر» وأجاب الأوّل عن الحديث بأنه محمول على من يشق عليه الصوم فقول جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا صائم فقال ﷺ «ليس من البرّ الصيام في السفر» والدليل على جواز
فلا يليق به أن يقول لهم: ﴿ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين﴾ وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم: أنتم عيون وجواسيس مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة؛ لأنّ البهتان لا يليق بحال الصديق ثم قال عليه السلام:
﴿فإن لم تأتوني به﴾، أي: بأخيكم ﴿فلا كيل﴾، أي: فلا ميرة ﴿لكم عندي﴾ ولم يمنعهم من غيره ﴿ولا تقربون﴾ نهي أو عطف على محل فلا كيل لكم، أي: تحرموا ولا تقربوا مني ولا تدخلوا دياري، فجمع لهم عليه السلام بين الترغيب والترهيب فالترغيب في قوله الأوّل، والترهيب في قوله الثاني؛ لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، ومع ذلك لم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل:
﴿قالوا سنراود﴾، أي: بوعد لا خلف فيه حين نصل ﴿عنه أباه﴾، أي: سنكمله فيه وننازعه الكلام ونحتال فيه ونتلطف في ذلك ولاندع جهداً ﴿وإنا لفاعلون﴾ ما أمرتنا به والتزمناه.
﴿و﴾ لما أرغبهم وأرهبهم في شأن أخيه ﴿قال لفتيته﴾، أي: غلمانه الكيالين جمع فتى، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بألف بعد الياء المثناة تحت وبعد الألف نون مكسورة، والباقون بالياء المثناة تحت ثم بتاء مثناة فوق مكسورة. ﴿اجعلوا بضاعتهم﴾، أي: التي أتوا بها ثمن الميرة وكانت دراهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها كانت النعال والأدم ﴿في رحالهم﴾ جمع رحل أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام ﴿لعلهم يعرفونها﴾، أي: بضاعتهم ﴿إذا انقلبوا﴾، أي: رجعوا ﴿إلى أهلهم﴾ وفتحوا أوعيتهم ﴿لعلهم يرجعون﴾ إلينا.
واختلف في السبب الذي من أجله رد يوسف عليه السلام بضاعتهم في رحالهم على أوجه:
الأوّل: أنه أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدّة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
الثاني: أراد أن يعرّف أباه انه أكرمهم وطلبهم لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.
الثالث: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا يطلب زيادة الثمن.
والرابع: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه عيب ولا منة.
الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد أنبياء فيرجعون ليعرفوا السبب فيه، ويردوا الملك إلى مالكه.
السادس: أراد به التوسعة على أبيه؛ لأنّ الزمان كان زمان القحط.
السابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه ومن إخوته على شدّة حاجتهم إلى الطعام لؤم.
الثامن: خاف أن لا يكون عند أبيه من المال ما يرجعون به مرّة أخرى.
التاسع: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أنّ ذلك كرم من يوسف عليه السلام وسخاء، فيبعثهم ذلك إلى العود إليه والحرص على معاملته عليه السلام.
﴿فلما رجعوا﴾، أي: أخوة يوسف عليه السلام ﴿إلى أبيهم قالوا يا أبانا﴾ إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا إكرامه، فقال يعقوب عليه السلام: إذا رجعتم إلى ملك مصر فأقرؤوه مني السلام وقولوا له: إنّ أبانا يدعو لك بما أوليتنا، ثم قال لهم: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة وقولهم: ﴿منع منا الكيل﴾ فيه قولان:
أحدهما: أنهم لما طلبوا الطعام
يؤذي موسى عليه الصلاة والسلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداة لموسى حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويضاحكونه.
قال ابن عباس: نزلت الزكاة على موسى عليه السلام فأتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار بدينار، وعن كل ألف درهم بدرهم، وعن كل ألف شاة بشاة، فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال: لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت قال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل ألف دينار، قيل طشتاً من ذهب، وقيل قال لها إني أمونك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان من الغد وكان يوم عيد لهم قام موسى عليه السلام خطيباً فقال: من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه فقال له قارون ولو كنت أنت قال ولو كنت أنا قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: ادعها فإن قالت فهو كما قالت فلما أن جاءت قال: لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء فعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت في نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله فقالت لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أرميك بنفسي فخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى: عليه السلام يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلبث مكانه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ثم قال موسى: يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم، وفي رواية كان على فراشه وسريره فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق وقارون وصاحباه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى
ويناشده قارون بالله والرحم، حتى روي أنه ناشده سبعين مرّة وموسى في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه ثم قال: يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض فأوحى الله تعالى إليه ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم ترحمه وعزتي وجلالي لو دعاني مرة واحدة لأجبته، وفي بعض الآثار لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد، قال قتادة: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة قال: وأصبح بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم إن موسى إنما دعا على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وبأمواله، فإياكم يا أمة هذا النبيّ أن تردوا ما أتاكم به من الرحمة فتهلكوا، وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن قارون كان من أقارب موسى عليه السلام فإن الأنبياء عليهم السلام كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدا فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴿فما﴾ فتسبب عنه أنه ما ﴿كان له﴾ أي: لقارون، وأكد النفي لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون بزيادة الجار في قوله تعالى: ﴿من فئة﴾ أي: أعوان وأصل الفئة
هلاكهم بأمور خارقة للعادة، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية والردّ عن الضلالة والغواية.
﴿أم لهم إله﴾ أي: يمنعهم من التصديق بكتابنا أو يستندون إليه للأمان من عذابنا ﴿غير الله﴾ أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿سبحان الله﴾ الملك الأعظم الذي تعالى عن أن يداني جنابه شائبة نقص ﴿عما يشركون﴾ من الأصنام وغيرها.
تنبيه: الاستفهام بأم في مواضعها للتقبيح والتوبيخ، ولما بين تعالى فساد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنهم لم يبق لهم عذر فإنّ الآيات والحجج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك استحقوا الانتقام.
وقوله تعالى: ﴿وإن يروا﴾ أي: معاينة ﴿كسفاً﴾ أي: قطعة وقيل قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر ﴿من السماء﴾ جهاراً نهاراً ﴿ساقطاً يقولوا﴾ جواب لقولهم فأسقط علينا كسفاً من السماء كأن الله تعالى يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن قولهم ويقولون لمعاندتهم: هذا ﴿سحاب﴾ فإن قيل لهم هو مخالف للسحاب بصلابته وغلظته قالوا ﴿مركوم﴾ أي: مركب بعضه على بعض فتلبد وتصلب.
وقوله تعالى: ﴿فذرهم﴾ أي: اتركهم على شر أحوالهم كقوله تعالى: ﴿فأعرض عنهم﴾ (السجدة: ٣٠)
وقوله تعالى: ﴿فتول عنهم﴾ (الصافات: ١٧٤)
إلى غير ذلك فقيل: كلها منسوخة بآية القتال قال ابن عادل وهو ضعيف وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن يصحبه دعه فإنه سينال جنايته ﴿حتى يلاقوا يومهم الذي فيه﴾ أي: لا في غيره لأنّ ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر ﴿يصعقون﴾ أي: يموتون من شدة الأهوال وعظم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور، ولكن لا نقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم للحساب الذي يكذبون به.
قال البقاعي: والظاهر أنّ هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعين بالنصر فيه فما أغنى أحد منهم عن أحد شيئاً كما قال أبو سفيان بن الحارث: ما هو إلا أنا ألقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا.
وقوله تعالى: ﴿يوم لا يغني﴾ أي: بوجه من الوجوه بدل من يومهم ﴿عنهم كيدهم﴾ أي: الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة ﴿شيئاً﴾ من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار ﴿ولا هم ينصرون﴾ أي: يتجدد لهم نصر ما في ساعة ما يمنعهم من العذاب.
وقوله تعالى: ﴿وإنّ للذين ظلموا﴾ يجوز أن يكون من إيقاع الظاهر موضع المضمر وأن لا يكون، والمعنى: وإنّ للذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولونه في القرآن ويفعلونه من العصيان ويعتقدونه من الشرك والبهتان ﴿عذاباً دون ذلك﴾ أي: غير عذاب ذلك اليوم قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر وقال الضحاك: هو الجوع والقحط سبع سنين وقال البراء بن عازب: عذاب القبر، والآية تحتمل هذه المعاني كلها ﴿ولكنّ أكثرهم لا يعلمون﴾ أن العذاب نازل بهم.
﴿واصبر﴾ أي: أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت عليه من أداء الرسالة ﴿لحكم ربك﴾ أي: المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك ولو لم يرده لم يكن شيء منه فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم، وسبب عن ذلك قوله تعالى مؤكداً لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات الامتحان من نوع نسيان ﴿فإنك بأعيننا﴾ أي: بمرأى منا نراك ونحفظك، وجمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها وهي