الواحد وهو يخاطب جماعة؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل كأنه قيل: كذلك أيها القبيل وقيل: هو خطاب للنبيّ ﷺ لأنّ خطابه يشتمل على خطاب الأمّة كقوله تعالى: ﴿يأيها النبيّ إذا طلقتم النساء﴾ (الفرقان، ٦٧) ﴿لعلكم تتفكرون﴾.
﴿في﴾ زوال ﴿الدنيا﴾ وفنائها فتزهدوا فيها ﴿و﴾ في إقبال ﴿الآخرة﴾ وبقائها فترغبوا فيها ﴿ويسئلونك﴾ يا محمد ﴿عن اليتامى﴾ وقد مرّ أنهم جمع يتيم، وأن اليتيم طفل لا أب له، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزل قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن﴾ (الأنعام، ١٥٢) وقوله: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً﴾ (النساء، ١٠) الآية تحرّج المسلمون من أموال اليتامى تحرّجاً شديداً، فإن واكلوهم يأثموا، وإن عزلوا مالهم من مالهم وصنعوا لهم طعاماً وحدهم فحرج، فاشتدّ ذلك عليهم فسألوا رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى ﴿قل إصلاح لهم﴾ أي: اليتامى في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم معهم ﴿خير﴾ من مجانبتكم.
﴿وإن تخالطوهم﴾ أي: تخلطوا نفقتهم بنفقتكم ﴿فإخوانكم﴾ أي: فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي: فلكم ذلك. وقيل: المراد بالمخالطة المصاهرة، ﴿وا يعلم المفسد﴾ لأموالهم بمخالطته ﴿من المصلح﴾ بها فيجازي كلاً منهما، ففي ذلك وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح.
﴿ولو شاء الله لأعنتكم﴾ أي: لضيق عليكم بتحريم المخالطة وما أباح لكم مخالطتهم، وأصل العنت الشدّة والمشقة، ومعناه: كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم ﴿إنّ الله عزيز﴾ غالب على أمره، يقدر على الإعنات وغيره ﴿حكيم﴾ يحكم بما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة.
﴿س٢ش٢٢١/ش٢٢٤ وَتَنكِحُوا؟ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ؟ وَ؟مَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ؟ وَتُنكِحُوا؟ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا؟؟ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ؟ أُو؟لَا؟ئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ؟ وَاللَّهُ يَدْعُو؟ا؟ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ؟؟ وَيُبَيِّنُءَايَاتِهِ؟ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَيَسْـ؟َلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ؟ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا؟ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ؟ وَتَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ؟ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ؟ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا؟ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ وَقَدِّمُوا؟ ؟نفُسِكُمْ؟ وَاتَّقُوا؟ اللَّهَ وَاعْلَمُو؟ا؟ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ؟ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَتَجْعَلُوا؟ اللَّهَ عُرْضَةً ؟يْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا؟ وَتَتَّقُوا؟ وَتُصْلِحُوا؟ بَيْنَ النَّاسِ؟ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
﴿ولا تنكحوا﴾ أي: لا تتزوّجوا أيها المسلمون ﴿المشركات﴾ أي: الكافرات ﴿حتى يؤمنّ﴾.
روي «أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها: عناق، وكانت خليلته في الجاهلية، فأتته وقالت: يا مرثد ألا تخلو فقال لها: ويحك يا عناق، إنّ الإسلام قد حال بيننا وبينك، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: نعم ولكن أستأمر رسول الله ﷺ فلما رجع إليه قال: يا رسول الله أيحلّ لي أن أتزوّج بها؟ فأنزلت هذه الآية»، هذا ما أورده الواحدي وغيره، ولكن الذي رواه أبو داود وغيره أنه سبب في نزول آية النور: ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة﴾ (النور، ٣) الآية، والآية وإن كانت شاملة للكتابيات، لكنها مخصوصة بغيرهنّ بقوله: ﴿والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب﴾ (المائدة، ٤٥) وقد تزوّج عثمان بنصرانية فأسلمت وتزوّج حذيفة بيهودية، وطلحة بن عبيد الله بنصرانية.
فإن قيل: كيف أطلقتم اسم الشرك على من لم ينكر إلا بنبوّة محمد ﷺ قال أبو الحسن بن فارس: لأنه يقول: القرآن كلام غير الله، ومن يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله غير الله انتهى.
وقال تعالى: ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله﴾ إلى قوله: ﴿سبحانه عما يشركون﴾ (التوبة، ٣١).
﴿ولأمة مؤمنة خير من﴾ أي: من حرّة ﴿مشركة ولو أعجبتكم﴾ لجمالها ومالها، نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك، فأعتقها وتزوّج بها. وقال السديّ: نزلت في عبد الله بن رواحة، كان له أمة فأعتقها، وتزوّج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: أتنكح أمة وعرضوا عليه
عظيمة ﴿لأولي الألباب﴾، أي: لذوي العقول المبرأة من شوائب الكدر ويعتبرون بها إلى ما يسعدهم؛ لأنّ من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام لقادر على أن يعز محمداً ﷺ ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره.
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن نبه تعالى على ذلك بتقدير سؤال فقال تعالى: ﴿ما كان حديثاً يفترى﴾، أي: يختلق؛ لأنّ الذي جاء به من عند الله وهو محمد ﷺ لا يصح منه أن يفتريه؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما رأوه في التوراة من غير تفاوت كما يعلم من قوله تعالى: ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾، أي: من الكتب الإلهية المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف عليه السلام ﴿و﴾ زاد على ذلك بقوله ﴿تفصيل﴾، أي: تبيين ﴿كل شيء﴾، أي: يحتاج إليه من الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط، وقيل: المراد تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته.
قال الواحدي: وعلى التفسيرين جميعاً فهو من العامّ الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ (الأعراف، ١٥٦)، أي: يجوز أن يدخل فيها وقوله تعالى: ﴿وأوتيت من كل شيء﴾ (النمل، ٢٣). ﴿وهدى﴾ من الضلال ﴿ورحمة﴾ ينال بها خير الدارين ﴿لقوم يؤمنون﴾، أي: يصدّقون خصهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين انتفعوا به كقوله تعالى ﴿هدى للمتقين﴾ فسبحان من أنزله معجزاً باهراً وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وما رواه البيضاويّ تبعاً ل «الكشاف» من أنه ﷺ قال: «علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد أحداً» حديث موضوع والله أعلم.
سورة الرعد
مكية
إلا ﴿ولا يزال الذين كفروا﴾ الآية ﴿ويقول الذين كفروا لست مرسلاً﴾ الآية أو مدنية إلا ﴿ولو أنّ قرآنا سيرت به الجبال﴾ وهي ثلاث أو أربع أو خمس أو ست وأربعون آية وعدد كلماتها وخمس وخمسون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعة أحرف.
﴿بسم الله﴾ الحق الذي كل ما عداه باطل ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ الرغبة والرهبةبعموم الرحمة ﴿الرحيم﴾ الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الرهبة.
﴿المر﴾ قال ابن عباس معناه أنا الله أعلم وأرى. وقال في رواية عطاء: أنا الله الملك الرحمن. وقد تقدم الكلام على شيء من أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بالفتح، وقرأ ورش بين بين والباقون بالإمالة ﴿تلك﴾، أي: هذه الآيات ﴿آيات الكتاب﴾، أي: القرآن، والإضافة بمعنى من، وقيل: المراد بالكتاب السورة الكاملة، ووصفت بالكمال من تعريف الكتاب بأل؛ لأنّ خبر المبتدأ إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة، وقوله تعالى: ﴿والذي أنزل إليك من ربك﴾، أي: القرآن مبتدأ وخبره ﴿الحق﴾، أي: الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة الواضح الذي لا يتخلف شيء منه
إليه بقوله تعالى: ﴿إنّ في ذلك لآية﴾ أي: دلالة ظاهرة على قدرته تعالى ﴿للمؤمنين﴾ وأُختص المؤمنون بذلك لأنهم المنتفعون به، ثم خاطب تعالى رأس أهل الإيمان بقوله تعالى:
﴿اتل ما أوحي إليك من الكتاب﴾ أي: القرآن الجامع لكل خير لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما كانوا على ما أنت عليه بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة، وهذا تسلية للنبي ﷺ ولما أرشد تعالى إلى مفتاح العلم دلّ على قانون العمل بقوله تعالى: ﴿وأقم الصلاة﴾ أي: التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إنّ الصلاة تنهى﴾ أي: توجد النهي وتجدّده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها ﴿عن الفحشاء﴾ أي: عن الخصال التي بلغ قبحها ﴿والمنكر﴾ وهو ما لا يعرف في الشرع، فإن قيل: كم من مصلّ يرتكب الفحشاء؟ أجيب: بأنّ المراد الصلاة التي هي الصلاة عند الله تعالى المستحق بها الثواب بأن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح متقياً لقوله تعالى: ﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾ (المائدة، ٣٧)
ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح، فقد روي عن حاتم كأنّ رجليّ على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت من فوقي وأصلي بين الخوف والرجاء، ثم يحوطها بعد أن يصليها ولا يحبطها فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال ابن مسعود وابن عباس: إن الصلاة تنهى وتزجر عن معاصي الله عز وجل فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله تعالى إلا بعداً، وقال الحسن وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه، وقيل من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما، فقد روي أنه قيل لرسول الله ﷺ أن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال: «إن صلاته لتردعه».
وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال: إنّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب، وقال ابن عوف: معنى الآية إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها، وعلى كل حال فإنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها، وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول: إن زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكر وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم، وقيل: المراد بالصلاة القرآن كما قال تعالى: ﴿ولا تجهر بصلاتك﴾ (الإسراء: ١١٠)
أي: بقراءتك وأراد به من يقرأ القرآن في الصلاة فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر، روي أنه قيل لرسول الله ﷺ إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله ويصبح سارقاً قال ستنهاه قراءته، ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله أتبع ذلك بقوله تعالى:
﴿ولذكر الله أكبر﴾ أي: لأنّ ذكر المستحق لكل صفات كمال أكبر من كل شيء فذكر الله تعالى أفضل الطاعات، قال ﷺ «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا: وما ذاك يا رسول الله قال: ذكر الله» وسئل ﷺ أي: العبادة أفضل عند الله درجة يوم القيامة قال: «الذاكرون الله كثيراً، قالوا
رسول الله ﷺ مرّتين، وعن ابن مسعود قال: «انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله ﷺ اشهدوا» وروى أنس بن مالك أنّ أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراً بينهما. وقال سنان عن قتادة: فأراهم انشقاق القمر مرتين. وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: لم ينشق بمكة. وقال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك وقيل انشق بمعنى سينشق يوم القيامة، وأوقع الماضي موقع المستقبل وهو خلاف الإجماع وقيل انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقاً وأنشد النابغة:

*فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داع*
وإنما ذكرت ذلك تنبيهاً على ضعفه. وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فسلوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رأيناه فأنزل الله تعالى: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾.
﴿وإن يروا﴾ أي: كفار قريش ﴿آية﴾ أي: معجزة له ﷺ كانشقاق القمر ﴿يعرضوا﴾ عنها ﴿ويقولوا﴾ هذا ﴿سحر مستمرّ﴾ أي: ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم مرّ الشيء واستمرّ إذا ذهب مثل قولهم: قر واستقر قاله مجاهد وقتادة، وقال أبو العالية والضحاك: مستمرّ أي: قوي شديد، من قولهم: مر الحبل إذا صلب واشتد، وأمررته: إذا أحكمت فتله، واستمر الشيء إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمرّ أي دائم، فإنّ محمداً ﷺ كان يأتي كل زمان بمعجز فقالوا: هذا سحر مستمرّ دائم لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سحر السحرة، فإنّ بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكلّ قاله الزمخشري ومنه قول الشاعر:
*ألا إنما الدنيا ليال وأعصر وليس على شيء قديم بمستمرّ*
وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال ألا إنّ الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم مستمرّ دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقه ودامت حاله قيل فيه قد استمّر وقال أبو حيان: سبب نزولها أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ ﷺ إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا بالإيمان إن فعل ذلك وقال ليلة بدرأي ليلة أربعة عشر في الشهر فسأل ربه فانشق القمر فقالوا سحر مستمرّ ولم يؤمنوا.
﴿وكذبوا﴾ بكون انشقاقه دالاً على صدق الرسول ﷺ وجزموا بالتكذيب عناداً ﴿واتبعوا﴾ أي: بمعالجة فطرتهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق ﴿أهواءهم﴾ في أنه ﷺ سحر القمر وأنه خسوف في القمر وظهور شيء في جانب آخر من الجوّ يشبه نصف القمر وأنه سحر أعيننا وأنّ القمر لم يصبه شيء فهذه أهواؤهم.
قال القشيري: إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله تعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصروا الرشد واتباع الرضا مقرون بالتصديق لأنّ الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق.
﴿وكل أمر﴾ أي: من أموركم من الخير أو الشرّ ﴿مستقرّ﴾ أي: بأهله في الجنة أو النار وقال قتادة وكل أمر مستقرّ فالخير مستقر بأهل الخير والشرّ مستقرّ بأهل الشرّ وقيل مستقرّ قول المصدّقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقيل: كل أمر مستقرّ في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا كقوله تعالى: ﴿لا يخفى على الله منهم شيء﴾ (غافر: ١٦)
﴿ولقد جاءهم﴾ أي أهل مكة في القرآن قبل الانشقاق ﴿من الأنباء﴾ أي: أخبار إهلاك الأمم الماضية المكذبة رسلهم لأنّ الأنباء الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد ﴿وجئتك من سبأ بنبأ يقين﴾ (النمل: ٢٢)
لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخطر وقال تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ﴾ (الحجرات: ٦)
أي بأمر عظيم له خطر وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال ﴿ما فيه﴾ خاصة ﴿مزدجر﴾ أي: عمّاهم فيه من الباطل، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله تعالى.
تنبيه: المزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار والدال بدل من تاء الافتعال وازدجرته وزجرته نهيته بغلظة وما موصولة أو موصوفة.
وقوله تعالى: ﴿حكمة﴾ خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أومن مزدجر ﴿بالغة﴾ أي: لها أعظم البلوغ إلى أنهى غايات الحكمة لصحتها ووضوحها ففيها مع الزجر ترجئة ومواعظ وأحكام ودقائق ﴿فما تغن﴾ أي: تنفع ﴿النذر﴾ أي: الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها ومنها إنما المغني بذلك هو الله تعالى فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.
قال البقاعي: ولعل الإشارة بإسقاط ياء تغني بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت ثمرة الإنذار وهو القبول.
تنبيه: يجوز في ما أن تكون استفهامية وتكون في محل نصب مفعولاً مقدّماً أي أي شيء تغني النذر وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً والنذر جمع نذير والمراد به المصدر أو اسم الفاعل.
ولما كان ﷺ شديد التعلق بطلب نجاتهم فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم تسبب عن ذلك قوله تعالى: ﴿فتولّ عنهم﴾ أي: كلف نفسك الإعراض عن تمني ذلك فما عليك إلا البلاغ وأمّا الهداية فإلى الله تعالى وحده.
تنبيه: قال أكثر المفسرين نسختها آية السيف وقال الرازي


الصفحة التالية
Icon