عنده عشرة أيام جاز قربانها قبل الغسل.
﴿من حيث أمركم الله﴾ بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره. أمّا الملامسة فيما عدا ما بين السرّة والركبة والمضاجعة معها قبل الغسل، ولو قبل إنقطاع الحيض فجائز، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: «كان يأمرني ﷺ فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض».
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: «حضت وأنا مع النبيّ ﷺ في الخميلة فانسلت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي، فلبستها فقال لي رسول الله ﷺ أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة» ﴿إن الله يحب﴾ أي: يثيب ويكرم ﴿التوّابين﴾ من الذنوب ﴿ويحب المتطهرين﴾ أي: المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإتيان في غير القبل.
﴿نساؤكم حرث لكم﴾ أي: مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات ﴿فأتوا حرثكم﴾ أي: محله وهو القبل ﴿أنى﴾ أي: كيف ﴿شئتم﴾ من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار.
وروى الشيخان أنّ اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته من دبرها أي: خلفها في قبلها جاء ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية.
﴿وقدّموا لأنفسكم﴾ من الأعمال الصالحة، كالتسمية عند الجماع وطلب الولد أي: ما يدخر لكم من الثواب ﴿واتقوا الله﴾ في أمره ونهيه ﴿واعلموا أنكم ملاقوه﴾ بالبعث، فتزوّدوا ما لا تُفْتَضَحون به فإنه يجازيكم بأعمالكم ﴿وبشر المؤمنين﴾ بالكرامة والنعيم الدائم، أمر الرسول ﷺ أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم. وقوله تعالى: ﴿ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم﴾ نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، لما حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها، أو في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه أي: زوج أخته بشير بن النعمان، ولا يصلح بينه وبين أخت.
فالعرضة كل ما يعرض فيمنع عن الشيء أي: لا تجعلوا الحلف سبباً مانعاً لكم من البرّ والتقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو برّ فيقول: حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ كما قال تعالى: ﴿أن تبرّوا﴾ أي: مخالفة أن لا تبرّوا، فهو في موضع نصب مفعول من أجله. وعند الكوفيين لئلا تبرّوا كقوله تعالى: ﴿يبين الله لكم أن تضلوا﴾ (النساء، ١٧٦) أي: لئلا تضلوا، وقال أبو إسحق في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف أي: أن تبرّوا وتتقوا خير لكم وقيل: التقدير في أن تبرّوا، فلما حذف حرف الجرّ نصب، وقيل: هو في موضع جرّ بالحرف المحذوف.
﴿وتتقوا وتصلحوا بين الناس﴾ فتكره اليمين على ذلك، ويسنّ فيه الحنث ويُكَفّر، لما روي عنه ﷺ أنه قال: «من حلف بيمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير» بخلافها على فعل البرّ ونحوه فهي طاعة ﴿وا سميع﴾ لأقوالكم ﴿عليم﴾ بأحوالكم.
﴿في أيمانكم﴾ واللغو: كل مطروح من الكلام لا يعتدّ به.
واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكور في الآية، فقال قوم: هو ما سبق إلى اللسان على عجلة، لصلة كلام من غير عقد ولا قصد، كقول القائل: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: لغو اليمين كقول الإنسان:
الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، فلا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير عن تدبير، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات.
ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى: ﴿يفصل﴾، أي: يبين ﴿الآيات﴾ التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار.
ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله ﴿لعلكم﴾ يا أهل مكة ﴿بلقاء ربكم﴾ بالبعث ﴿توقنون﴾ فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة، فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد، وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
تنبيه: اليقين صفة من صفات العلم، وهي فوق المعرفة، والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك. ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى: ﴿وهو الذي مدّ الأرض﴾، أي: بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولوشاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا أنّ الأرض مسطحة لا كرة، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة، كما ثبت بالدليل؟ أجيب: بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها، فكذلك ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية.
الثاني منها قوله: ﴿وجعل﴾، أي: وخلق ﴿فيها﴾، أي: الأرض ﴿رواسي﴾، أي: جبالاً ثوابت واحدها راسية، أي: ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس: أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان.
الثالث منها قوله تعالى: ﴿وأنهاراً﴾، أي: وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع ضيائه. الرابع منها: قوله تعالى: ﴿ومن كل الثمرات﴾ وهو متعلق
مكة وأهل الكتابين ﴿وما يجحد﴾ أي: ينكر، قال قتادة: والجحود: إنما يكون بعد المعرفة ﴿بآياتنا﴾ أي: التي جاوزت أقصى غايات العظمة حتى إنها استحقت الإضافة إلينا ﴿إلا الكافرون﴾ أي: اليهود ظهر لهم أنّ القرآن حق والجائي به محق وجحدوا ذلك وهذا تنفير لهم عما هم عليه يعني أنكم آمنتم بكل شيء وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة إلا هذه المسألة الواحدة وبإنكارها تلحقون بهم وتعطلون مزاياكم فإنّ الجاحد بآية يصير كافراً.
﴿وما﴾ أي: وأنزلنا إليك الكتاب والحال أنك ما ﴿كنت تتلو﴾ أي: تقرأ أصلاً ﴿من قبله﴾ أي: هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، وأكد استغراق الكتب بقوله تعالى: ﴿من كتاب﴾ أصلاً ﴿ولا تخطه﴾ أي: تجدّد وتلازم خطه وصور الخط، وأكده بقوله: ﴿بيمينك﴾ فإن قيل ما فائدة قوله بيمينك؟ أجيب: بأنه ذكر اليمين التي هي أقوى الجارحتين وهي التي يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً، ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه كان أشّذ لإثباتك أنه تولى كتبه فكذلك النفي، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة القوية التي ينشأ عنها ملكه فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ولذلك قال تعالى: ﴿إذاً﴾ أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ ﴿لارتاب﴾ أي: شك ﴿المبطلون﴾ أي: اليهود فيك وقالوا: الذي في التوراة أنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأوّلين وكتبه بيده.
فإن قيل: لم سماهم مبطلين ولو لم يكن أمياً وقالوا ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه بيده فإنه رجل كاتب قارئ؟ أجيب: بأنه سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمياً لارتابوا أشدّ الريب فحينئذٍ ليس بقارئ ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم، وأيضاً سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم وما جاؤوا به لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى على أنّ المنزل إليهم معجز وهذا المنزل معجز فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا وهو أمي ومبطلون حيث لم يؤمنوا وهو غير أمي، ولما كان التقدير ولكنه لا ريب لهم أصلاً ولا شبهة لقولهم أنه باطل قال تعالى:
﴿بل هو﴾ أي: القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير ﴿آيات﴾ أي: دلالات ﴿بينات﴾ أي: واضحات جدّاً في الدلالة على صدقك ﴿في صدور الذين أوتوا العلم﴾ أي: المؤمنين يحفظونه فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمداً ﷺ ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته ووصفه في كتبهم ﴿وما يجحد﴾ وكان الأصل به ولكنه أشار إلى عظمته بقوله تعالى: ﴿بآياتنا﴾ أي: ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجهله أحد ﴿إلا الظالمون﴾ أي: المتوغلون في الظلم المكابرون.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى
أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل ﴿قبلهم﴾ أي: أهل مكة ﴿قوم نوح﴾ مع ما كان بهم من القوّة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار، وأنث فعلهم تحقيراً لهم، وتهويناً لأمرهم في جنب قدرته تعالى.
فإن قيل: إلحاق الضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوّزون كذبت فما الفرق؟ أجاب الرازي بأنّ التأنيث إنما جاز قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع لأنّ الجمع للفاعلين بسبب فعلهم ﴿فكذبوا عبدنا﴾ نوحاً عليه السلام على ماله من العظمة بنسبته إلينا مع تشريفنا إياه بالرسالة ﴿وقالوا﴾ زيادة على التكذيب ﴿مجنون﴾ أي: فهذا الذي يصدر منه من الخوارق أمر من الجنّ.
﴿وازدجر﴾ وهل هذا من مقولهم أي قالوا: إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبه قاله مجاهد، أو هو من كلام الله تعالى أخبر الله تعالى عنه بأنه انتهر وازدجر بالسب وأنواع الأذى، وقالوا: ﴿لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين﴾ (الشعراء: ١١٦).
قال الرازي: وهذا أصح لأنّ المقصود تقوية قلب النبيّ ﷺ بذكر من تقدّمه وأيضاً يترتب عليه قوله تعالى: ﴿فدعا ربه﴾ وهذا الترتيب في غاية الحسن، لأنّهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه الذي رباه بالإحسان إليه وبرسالته ﴿أني﴾ أي: بأني ﴿مغلوب﴾ أي: من قومي كلهم بالقوّة والمنعة لا بالحجة وأكده ابلاغاً في الشكاية وإظهار الذل العبودية؛ لأنّ الله تعالى عالمٌ بسر العبد وجهره فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل وكذا الإبلاغ فيه، وقال ابن عطية: غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم. قال ابن عادل: وهو ضعيف. ﴿فانتصر﴾ أي: أوقع نصرتي عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه فانتقم لي منهم.
﴿ففتحنا﴾ أي: بسبب دعائه فتحاً يليق بعظمتنا ﴿أبواب السماء﴾ أي: كلها في جميع الأقطار، وعَبَّرَ بجمع القلة عن جمع الكثرة والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإنّ للسماء أبواباً تفتح وتغلق وقيل: هذا على سبيل الاستعارة فإنّ الظاهر أنّ الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفي قوله تعالى: ﴿ففتحنا﴾ بيان بأنّ الله تعالى انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف.
وفي الباء في قوله تعالى: ﴿بماء﴾ وجهان: أظهرهما: أنّها للتعدية وذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة للفتح به كما تقول فتحت بالمفتاح والثاني أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بماء ﴿منهمر﴾ أي: منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب كثرة وعظماً ولذلك لم يقل بمطر لأنّه خارجٌ عن تلك العادة واستمرّ ذلك أربعين يوماً.
﴿وفَجّرْنا﴾ أي: صدّعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأسلنا ﴿الأرض عيونا﴾ أي: جميع عيون الأرض ولكنَّه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثمَّ البيان وإفادة أنّ وجه الأرض صار كله عيوناً وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها.
﴿فالتقى الماء﴾ أي: المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال تعالى: ﴿على أمرٍ﴾ أي: حالٍ