﴿ولهنّ﴾ على الأزواج ﴿مثل الذي﴾ لهم ﴿عليهنّ﴾ من الحقوق ﴿بالمعروف﴾ شرعاً من حسن العشرة وترك الضرر ونحو ذلك.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى ذلك: إني أحب أن أتزين لامرأتي، كما تحب أن تتزيّن لي لهذه الآية، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ «إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهن خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم».
فإن قيل: ما المراد بالمماثلة؟ أجيب: بأنّ المراد أنّ لهنّ حقوقاً على الرجال مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب، واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس إذ ليس الواجب على كلّ منهما من جنس ما وجب على الآخر، فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل مثل ذلك، ولكن يقابلها بما يليق بالرجال ﴿وللرجال.
عليهنّ درجة﴾ أي: فضيلة في الحق؛ لأنّ المرأة تنال من الرجل من اللذة مثل ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وانفاقه في مصالحها؛ ولأن حقوقهم في أنفسهنّ بالوطء والتمتع، وحقوقهنّ المهر والكفاف وترك الضرار، وقيل بصلاحيته للإمامة والقضاء والشهادة، وقيل: بالجهاد، وقيل: بالميراث وقيل: بالدية، وقيل: بالعقل ﴿وا عزيز﴾ في ملكه قادر على الانتقام ممن خالف الأحكام ﴿حكيم﴾ فيما دبره لخلقه يشرعها لحكم ومصالح.
﴿الطلاق﴾ أي: التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي: الذي يراجع به ﴿مرّتان﴾ أي: اثنتان.
روي عن عروة بن الزبير قال: كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد، كان الرجل يطلق امرأته، فإذا قاربت انقضاء عدّتها راجعها، ثم طلقها كذلك ثم راجعها بصد مضارتها، فنزلت هذه الآية.
وروى أبو داود وغيره أنه ﷺ سئل: أين الثالثة؟ فقال ﷺ «أو تسريح بإحسان» ﴿فإمساك﴾ أي: فعليكم إمساكهنّ إذا راجعتموهنّ بعد الطلقة الثانية ﴿بمعروف﴾ وهو كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة ﴿أو تسريح بإحسان﴾ بالطلقة الثالثة، أو بأن لا يراجعها حتى تبين منه.
تنبيه: اختلف العلماء فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً، فذهب الأكثر ومنهم الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج، فالحرّ يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات، والعبد لا يملك على زوجته الحرّة إلا طلقتين وذهب الأقلّ ومنهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق كالعدّة، فيملك العبد على زوجته الحرّة ثلاث طلقات ولا يملك الحرّ على زوجته الأمة إلا طلقتين.
﴿ولا يحلّ لكم﴾ أيها الأزواج ﴿أن تأخذوا مما آتيتموهنّ﴾ من المهور ﴿شيئاً﴾ إذا طلقتموهنّ. روي أنها نزلت في جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فشكته إلى أبيها فقال: ارجعي إلى زوجك، فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها، فلما رأت أباها لم يشكها رجعت إلى رسول الله ﷺ فأرسل خلفه فجاءه، فقال له: «مالك ولأهلك؟» قال: والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحبّ إليّ منها غيرك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولين؟» فقالت: هو مني أكرم الناس حباً لزوجته ولكن، لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي، ورأسه شيء والله لا أعيبه في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً أي: أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر بغضاً فيه، ويحتمل أن تريد كفران العشرة ـ إني رفعت
والثامن والتاسع في الصافات، والعاشر في الواقعة، والحادي عشر في النازعات. وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله.
﴿أولئك﴾، أي: الذين جمعوا أنواعاً من البعد من كل خير ﴿الذين كفروا بربهم﴾، أي: غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم، ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم ﴿وأولئك﴾ البعداء البغضاء ﴿الأغلال﴾ يوم القيامة ﴿في أعناقهم﴾ بسبب كفرهم، والغل: طوق من حديد تقيد به اليد في العنق، وقيل: المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل، وقيل: إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم. ﴿وأولئك﴾، أي: الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم ﴿أصحاب النار هم فيها خالدون﴾، أي: ثابت خلودهم دائماً لا يخرجون منها ولا يموتون. ولما كان ﷺ يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى، وكلما هدّدهم بعذاب الدنيا قالوا له: فجئنا بهذا العذاب، وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن وإظهار أنّ الذي يقول كلام لا أصل له نزل:
﴿ويستعجلونك﴾، أي: استهزاء وتكذيباً، والاستعجال طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له ﴿بالسيئة﴾، أي: العذاب ﴿قبل الحسنة﴾، أي: الرحمة، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يقولون: اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذا أليم.
تنبيه: قوله ﴿قبل الحسنة﴾ فيه وجهان: أحدهما: متعلق بالاستعجال ظرفاً له والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة قاله أبو البقاء. ﴿وقد﴾، أي: والحال أنه قد ﴿خلت من قبلهم المثلات﴾ جمع مثلة بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها. ﴿وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم﴾ وإلا لم يترك على ظهرها دابة كما قال تعالى: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ (فاطر، ٤٥). وقال ابن عباس: معناه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا. ﴿وإنّ ربك لشديد العقاب﴾ للمصرين على الشرك الذين ماتوا عليه. وقال مقاتل: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وشديد العقاب إذا عاقب. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ الكفار طعنوا في نبوة النبيّ ﷺ بسبب طعنهم في الحشر والنشر أوّلاً، ثم طعنوا في نبوّته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً، ثم طعنوا في نبوّته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة. ثالثاً، وهو المذكور في قوله تعالى:
﴿ويقول الذين كفروا لولا﴾، أي: هلا ﴿أنزل عليه﴾، أي: محمد ﷺ ﴿آية من ربه﴾، أي: مثل عصا موسى وناقة صالح وذلك؛ لأنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزاً مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، وكان نبينا ﷺ راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدّة التفاته إلى إيمانهم قال الله تعالى له: ﴿إنما أنت منذر﴾، أي: ليس عليك إلا الإنذار والتخويف، وليس عليك إتيان الآيات. ﴿ولكل قوم هاد﴾، أي: نبيّ يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون.
وأوعد بالعذاب إن لم يؤمنوا أخبر الله تعالى عنهم بقوله تعالى:
﴿ويستعجلونك بالعذاب﴾ نزلت في النضر بن الحارث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين ويجعلون تأخيره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب ﴿ولولا أجل مسمى﴾ قد ضرب لوقت عذابهم فلا تقدّم فيه ولا تأخر ﴿لجاءهم العذاب﴾ وقت استعجالهم لأنّ القدرة تامّة والعلم محيط ﴿وليأتينهم بغتة﴾ أي: فجأة في الدنيا كوقعة بدر أو الآخرة عند نزول الموت بهم ﴿وهم لا يشعرون﴾ بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه، ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله تعالى مبدلاً:
﴿يستعجلونك بالعذاب﴾ أي: يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به ولو علموا ما هم صائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه ﴿وإنّ جهنم﴾ التي هي من عذاب الآخرة ﴿لمحيطة بالكافرين﴾ أي: ستحيط بهم يوم يأتيهم العذاب أو هي كالمحيطة بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي التي توجبها بهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر تنبيهاً على ما استحقوا به عذابها وتعميماً لكل من اتصف به، ثم ذكر تعالى كيفية إحاطة جهنم بقوله عز وجل.
﴿يوم يغشاهم العذاب﴾ أي: يلحقهم ويلصق بهم ﴿من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ فعلم بذلك إحاطته من جميع الجوانب، فإن قيل: لم خص الجانبين ولم يذكر اليمين والشمال وخلف وقدّام؟ أجيب: بأنّ المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا ونار الدنيا تحيط بالجوانب الأربعة فإنّ من يدخلها تكون الشعلة قدّامه وخلفه ويمينه ويساره، وأمّا النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة بل تنطفئ الشعلة التي تحت القدم ونار جهنم تنزل من فوق ولا تنطفئ بالدوس موضع القدم.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: ﴿من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ ولم يقل من فوق رؤوسهم ولا قال من فوقهم ومن تحتهم بل ذكر المضاف إليه عند ذكر تحت ولم يذكره عند ذكر فوق؟ أجيب: بأن نزول النار من فوق سواء كان من سمت الرأس أم من موضع آخر عجب لأنّ طبع النار الصعود إلى فوق فلهذا لم يخصه بالرؤوس، وأمّا بقاء النار تحت القدم فهو عجب وإلا فمن جوانب القدم في الدنيا تكون الشعلة فذكر العجيب وهو ما تحت الأرجل حيث لم ينطفئ بالدوس، وأمّا فوق فعلى الإطلاق وقوله تعالى ﴿ونقول﴾ قرأ نافع والكوفيون بالياء أي: الموكل بالعذاب من ملائكته بأمره، والباقون بالنون أي: نأمر بالعذاب، ولما بين عذاب أجسامهم بين عذاب أرواحهم وهو أن يقال لهم على سبيل التنكيل والإهانة ﴿ذوقوا ما كنتم تعملون﴾ جعل ذلك عين ما كانوا يعملون مبالغة بطريق اسم المسبب على السبب فإن عملهم كان سبباً لعذابهم وهذا كثير في الاستعمال، ولما ذكر تعالى حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتدّ عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من العبادة قال تعالى:.
﴿يا عبادي الذين آمنوا﴾ فشرفهم بالإضافة إليه ﴿إن أرضي واسعة﴾ أي: في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق إن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم، قال مقاتل والكلبي: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول الله تعالى:
قصة عاد في الفظاعة، فقال تعالى: ﴿كذبت ثمود﴾ أي قوم صالح عليه السلام وقوله تعالى: ﴿بالنذر﴾ جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام إن لم يؤمنوا به.
ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى: ﴿فقالوا﴾ منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار ﴿أبشراً﴾ إنكار الرسالة، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره ﴿نتبعه﴾ الآتي، وقولهم: ﴿منا﴾ نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وقولهم: ﴿واحداً﴾ نعت له أيضاً، ثم عظموا الإنكار بقولهم ﴿نتبعه﴾ أي: نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى: كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا.
ثمَّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين: ﴿إنَّا إذاً﴾ أي: إن أتبعناه ﴿لفي ضلال﴾ أي: ذهاب عن الصواب محيط بنا ﴿وسعر﴾ أي: ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا: إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول، وقيل: السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر:
*كأنّ بها سعر إذا العيس هزها | ذميل وإرخاء من السير متعب* |
ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم: ﴿بل هو كذاب﴾ أي: بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر ﴿أشر﴾ أي: متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع، قال الله تعالى: ﴿سيعلمون﴾ أي: بوعد لا خلف فيه ﴿غداً﴾ أي: في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة.
وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان: أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه. والثاني: أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات، والباقون بياء الغيبة جرياً على الغيب قبله في قوله تعالى: ﴿فقالوا أبشراً﴾ واختار هذه القراءة مكي، لأنّ عليها الأكثر. ﴿من الكذاب الأشر﴾ أي: وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح ﷺ وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى: ﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿مرسلوا الناقة﴾ أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام: مخصصين له